حزبٌ عربيٌّ في الائتلاف الحكوميّ؛ حنكة أم مقايَضة لحقوقنا؟

هناك عدد من الأسئلة التي علينا، من وجهة نظري، التفكير فيها مليًّا بشأن تعاملنا مع دولة إسرائيل التي نحمل جنسيتها؛ وتعامل الدولة معنا كمواطنين فلسطينيّين، على المديين القصير والبعيد. أسئلة صارت ملحّة في ظلّ ظاهرة جديدة غير مسبوقة، حيث يقرّر حزب وتيار سياسي يمثّل شريحة وازنة من المجتمع الفلسطينيّ الانضمام رسميًّا إلى حكومة إسرائيلية يمينية. هذه سابقة لم تحدث منذ نكبة 48 وحتى السنة السابقة.

لا يجدر إدارة هذا النقاش في إطار مناكفات حزبية وانتخابية مرحلية، بل يجدر النظر إليها بشكل نقدي لتفحّص ماهيّة هدفنا من التنظيم السياسي ونوعيّة التغيير الذي نمارس العمل السياسي من أجل تحقيقه. يدور الحديث هنا طبعًا عن تسويق القائمة الموحّدة بقيادة الحركة الإسلامية الجنوبية لنهج جديد تدخل فيه الائتلاف الحكومي وتفاوض من هناك لتحصيل المزيد من الميزانيات و"تحسين حياة المواطن بعيدًا عن الشعارات الرنانة" كما تكرّر في تصريحاته.

هل من الممكن حقّاً الفصل بين كوننا جزءا من الشعب الفلسطينيّ المحتلّ والمهجر في ظلّ صراع مستمرّ مع دولة استعمرت أرضنا وبين "إنجازات" برلمانية مرحلية عن طريق تنحية الصراع القومي جانبًا والعمل على تحسين ظروف المعيشة اليومية؟ هل هذا ممكن حتّى من منظور عملي كما يتحدث عنه قادة النهج الجديد؟ ما المخاطر في ذلك وماذا يمكن أن نخسر؟ هل من الحنكة المساومة على تحصيل حقوق المواطنة الأساسيّة على طريقة "مرقلي بمرقلك" أو "مشيلي وبغضّ الطرف"؟ من الواضح أن انضمام حزب يعرف نفسه كعربيّ إسلاميّ يضفي شرعيّة على سياسات الحكومة وممارساتها، فما المقابل لهذا ومن الرابح من ذلك؟ كيف يؤثّر هذا على الوعي السياسي للمجتمع الفلسطيني وعلى لُحمته الداخليّة وقدرته على تشكيل خطاب وعمل وحدويّ مع تعدديّة حزبيّة؟

قبل الخوض في عنوان المقال وفي جوهر هذه الأسئلة، لا بدّ من النظر إلى السياق العام الذي يجري فيه هذا النقاش اليوم. مرّ العمل السياسي والتنظيم الحزبي للأقلية الفلسطينية في إسرائيل مراحل عدّة من النكبة وحتى اليوم. تعاقبت على حكم إسرائيل حكومات وتيارات سياسية عديدة، إلا أنّ الطبيعة الأساسية لنظرة وممارسات كل هذه التيارات والحكومات للأقليّة الفلسطينية داخل إسرائيل والى الشعب الفلسطيني عامّة - بقيت ثابتة. يمكن توصيف ذلك ببساطة كعملية مستمرة لاستقدام أكبر كم من المهاجرين من يهود العالم والاستيلاء والسيطرة على أكبر كم من الأّراضي والأملاك الفلسطينيّة داخل إسرائيل وفي المناطق المحتلّة على حدّ سواء؛ ولكن بوسائل وذرائع قانونيّة مختلفة. أي أنّ معادلة أقلّ عدد من العرب وأكبر مساحة من الأرض لم تتغيّر منذ إقامة إسرائيل قبل 74 سنة وحتى اليوم. اختلفت التيارات والأحزاب الصهيونيّة على الاستراتيجيّات والتكتيكات المرحليّة ولكنّها بقيت تحت نفس المظلّة فكرًا وممارسة حتى اليوم.

بالمقابل، تنوّعت التيارات السياسيّة لفلسطينييّ الداخل واحتدمت النقاشات حول مواضيع عدّة، إلا أنّ التيارات الوطنية نجحت في الحفاظ على خطوط عريضة، ثوابت وأسس مشتركة على مر السنوات. ثمّة نقاشات حول المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها، النداء بحل الدولتين أو حل الدولة الواحدة وغيرها من المواضيع الخلافية، لكنها لم تقف بوجه صياغة خطاب ووعي شعبي عام بضرورة اعتراف إسرائيل بتسببها بنكبة الشعب الفلسطيني وأخذ المسؤولية لإصلاح هذا الغبن التاريخي، إِلى جانب حقوق مواطنة كاملة بالتوازي وبغض النظر عن نوعية الحل وتوقيته. اصطلح على تسمية هذين المسارَين المتوازيين "باليومي" والـ "قومي". بكلمات أبسط يمكننا القول بأنَّ مطالبة الفرد الفلسطيني بحقوق مدنية متساوية في دولة يهودية هجرته وفرضت مواطنتها عليه يجب أن تتم بالتوازي مع مطالبته بالنظر إليه كجزء من شعب ولا تتعارض مع حقّه في المطالبة بتغيير سياسي عميق في هوية الدولة. بل بتفكيك بنية الدولة ومؤسساتها العنصرية التي تقمعه وتميز ضده بنيويا على أساس انتمائه القومي. من حقّ بل من واجب كلّ مواطن وبالذات عندما يكون جزءا من شعب واقع تحت الاستعمار، أن يطالب بتفكيك بنية الدولة وتحويل نظامها ومؤسساتها من مؤسسات فصل عنصريّ استعمارية إلى مؤسّسات عادلة لجميع المواطنين. من الخطر جدّا التعاون مع قواعد لعبة "المواطن الصالح المطيع" التي حاولت إسرائيل فرضها على الفلسطينيين من مواطنيها على مرّ السنين؛ أي القبول بكونها دولة يهودية وكوننا "أبناء أقلّيّات" في دولة اليهود. هذا هو لبّ الموضوع وهو أيضا السبب العمليّ - حتّى من منطلق البراغماتيّة البحتة- لعدم قدرة أي نهج جديد تجاهل ذلك، على تحصيل حقوق مدنيّة أكثر مقابل تحييد النضال القوميّ عن طريق لعب دور الـ "عربيّ الجيّد"، أو "العربيّ الفهلويّ". يكمن أساس المشكلة في هوية الدولة وبنيتها ومؤسّساتها العنصرية التي يجب أن تتغير. قوانين الهجرة لليهود فقط، سيطرة مديرية أراضي إسرائيل على 93% من الأرض وتخصيصها لليهود فقط فيما تختنق البلدات العربية المحاصرة بخرائط هيكلية غير قابلة للتوسّع، لجان القبول للكيبوتسات والبلدات الجماهيرية لاستبعاد الفلسطينيّين من السكن فيها وغيرها...

مؤخرا، بدأت مؤسسات حقوق إنسان دولية وإسرائيلية مخضرمة تصعّد لهجتها متهمة إسرائيل بأنّها دولة أبارتهايد كما نرى في تقرير منظمة العفو الدوليّة الأخير وكما ظهر في لافتات رفعتها مؤسسة "بتسيلم" الإسرائيليّة خلال زيارة الرئيس الأمريكيّ بايدن لإسرائيل والضفة الغربيّة. بالمقابل، يستمرّ تيّار "النهج الجديد" الفلسطيني صاحب القضية بإضفاء شرعية على المؤسّسة الإسرائيليّة وممارساتها السياسيّة عن طريق كونه شريكا في الحكم وجزءاً من الائتلاف الحكومي. 


اذاً .. ماذا؟

من الواضح أنّنا في فترة مركّبة لا يبدو فيها الحلّ قريبا. تحكم الضفة الغربية سلطة فلسطينيّة متّهمة بالتآكل والفساد تستمر بلعب دور مقاول الأمن لدى إسرائيل بدلًا من قيادة نضال تحرّري أو حلّ نفسها كأضعف الإيمان؛ دول عربيّة تمزقها الحروب والاضطرابات؛ ودول خليجية تهرول للتطبيع. يتعمق الاستيطان وسلب الأرض يوميّا في ظلّ موازين قوى بعيدة كلّ البعد عن التكافؤ. فماذا بمقدورنا نحن الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل فعله؟

كلّنا نعرف مقولة بن غوريون "الكبار سيموتون والصغار سينسَون"، وقد أثبتنا عكس ذلك على مرّ سبعة عقود ونيف. صُنّا وعزّزنا هويّتنا الوطنيّة دون التنازل عن تمسّكنا بالحقّ في المساواة والعدالة وحقنا في التطوّر والتقدّم. نجحنا على الصعيد العلميّ والاقتصاديّ بالانخراط في المجال الأكاديميّ وفي سوق العمل بشكل يمنحنا قوّة لا يستهان بها بحيث يمكننا استخدامها في تعاملنا مع الدولة إن أحسنّا تنظيم أنفسنا واستغلال قوتنا هذه بالشكل الصحيح.

قد لا نملك حاليّا مقوِّمات قلب المعادلة وفرض حلّ عادل في الغد القريب، ولكن بإمكاننا العمل على النهوض بمجتمعِنا على الصعيد اليوميّ والقوميّ بانتظار تغير الظروف المحيطة غير المتعلِّقة بنا. لا مجال للجلوس جانبا والانتظار طبعا، ولكن السؤال هو كيف وبأي توجه نعمل. نجحنا بمقاومة سياسات ‘فرق تسد‘ من الترغيب الزائف لبناء وهم أَنّك ستنجح وتتقدّم إن توقّفت عن أنْ تكون فلسطينيّا وأصبحت عربيّا إسرائيليّا جيّدا. عندها ستفتح لك أبواب الجنّة وتلتحق بركب الحضارة خارج صندوق الشعارات القديمة. ما نجحنا به هو قلب معادلة المقايضة هذه والتقدم إلى الأمام مع الحفاظ على كرامة وطنيّة وعزة نفس في أصعب الظروف. عدوّك أو خصمك يحترمك عندما تحترم نفسك. عندما تكون ندّاً عزيزا وليس متلوِّنا محاولا الظهور بالصورة التي تعتقد أنّه يتوقّعها منك. كنْ ندّاً ولنستمرّ في ترسيخ الوعي الوطنيّ من منطلق العزّة والكرامة، وبالتأكيد عدم اتّباع "نهج جديد" يحوّل ممارسة السياسة إلى مسرحيّة مُذلّة في سوق النخاسة البرلمانيّ/ السياسيّ.


كاتب المقال: فادي شبيطة وهو مهندس برمجيّات، ناشط سياسيّ، ومدير شريك سابق في جمعيّة سيكوي.

استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

فادي شبيطة

مهندس برمجيّات، ناشط سياسيّ، ومدير شريك سابق في جمعيّة سيكوي

شاركونا رأيكن.م