محمود العارضة شخصية العام وفتحة النفق باقية

احترت ما بين حي الشيخ جراح ونفق الحرية، ففي الموقعَين المتباعدَين القريبين هناك أناس لولاهم لكان من غير المتوقع أن نشهد ما شهدناه من أحداث مفصلية حقيقية. فلولا صمود أهالي الشيخ جراح لكان من المستبعد رؤية هبّة الكرامة تنطلق وتنتصر للكرامة الوطنية وتضطر دولة الاحتلال لإعادة حساباتها، ليس من باب تغيير النوايا بل الاضطرار أمام الإصرار. الحدث الثاني من حيث التسلسل الزمني ودونما مفاضلة إذ لا معنى للمفاضلة بين الأحداث النِّضاليَّة، إنه نفق الحرية التي يتوق إليها شعبنا الفلسطيني فتأتيه من تحت الأرض لتنهض به نحو الأفق. وبما أن أهالي الشيخ جراح يرفعون صوتهم مباشرة، فقد رأيت من أولويتي أن أرفع صوت من تعيق جدران القهر وصول صرختهم. وكما درجت تكتب لي إلى السجن واحدةٌ من رموز التضامن العالمي صديقتي الهولندية أدري نويهوف، "أسعى أن أكون صوتكم وأن أكون أيضا مكبّر الصوت كي يصل إلى العالم من فوق جدران السجن"، وهي تدرك ما ندركه بأن صمود أهل الحق المباشرين هو الحجر الأساس لأية حركة شعبية تحررية، ولأيّ تضامن.
حين أفكر بالسجن، فإن أول ما أراه هو وجوه من غادرتهم وبقوا هناك ، وأفكّر حصريا بالأسرى الزملاء المحكومين بالسجن المؤبد مدى الحياة. أرى الحيرة وأسمع أقوالهم التي تبثّ المعنويات وأنظر إلى عيونهم المرتبكة حين يطول الصبر ويطول، وأتذكر كيف يصبح الصبر أسلوب حياة بينما الحياة تدور على هامشه، كما وأنظر إلى ما تتستر عنه تلك الوجوه من مفاجآت قد تفاجئ بؤس الحال.
وحين أفكر بنفق الحرية فإن أول ما يحضرني من وجوه هؤلاء الإخوة، وجه الصديق الوفيّ الأسير محمود العارضة، الذي يُطلق عليه مهندس النفق. لا تبدو النوايا على ملامح وجه محمود. لا يبثّ ولا يتبجّح ولا يعلن أنه يحمل مفاجأة، بل ما يبدو عليه هو ذلك الهدوء الواثق، يحافظ على رتابة نظامه اليومي بالإكثار من الرياضة للحفاظ على لياقته وصحته الجسدية والنفسية، ويهتم بأن يبدو أنيقا، ويحافظ على نظام يومي من التفاعل مع حياة الأسرى ومن القراءة والدراسة وتوفير راحة البال، ونظام غذائي سليم، جزء كبير من هذا كي يبدو وسيما حين تحظى أمه بزيارته، إذ يرى من مسؤوليته أن يطمئنها عنه ليس فقط بلغة الكلام بل بلغة الجسد والمحيّا، وهذه طريقته كي يطمئنها ويطمئنّ عنها، فحين تراه مرتاحا ترتاح، وربما هي تبدو مرتاحة كي يرتاح هو. كان حلمه أن يلتقي أمه وأن تحتضنه ويعانقها، وبعد ذلك فليكن ما يكون. إنه حلم ابن ستة وعشرين عاما من زمن أسير حُكِمَ مدى الحياة، ولا ينتهي إلا بنفق ما.
محمود العارضة هو ابن فلسطين وابن فصيل الجهاد الاسلامي، وهو القائد الوفيّ الواثق بالحلم لدرجة الاستكانة والهدوء، هكذا يتصالح مع ذاته. التقينا في سجن الجلبوع في العام 2014، وفي تلك الفترة حفر نفقا ومضى به أمتارا، إلا أنه لم يصل، فقد اكتشفه السجانون وعاقبوه وزملاءه الساعين لحريتهم. إلا أنّ محمود الذي ربطتنا علاقات صداقة متينة وثقة كبيرة، هو من الناس الذين لا يرون في الإخفاق إخفاقا، بل محاولة أخرى نحو بلوغ الغاية والهدف، يتعلّم منها ويحفر في ذهنه ويرسم الخرائط في خياله كي لا يعثر عليها السجانون في عملية مداهمة ليلية للزنزانة. لقد بات محمود من "أهل مكة أدرى بشعابها" كما وبات أدرى بشعاب باطن الأرض كي يصل إلى مساحات الوطن وفيها لمساحات حنان أمه. لقد جعل الناس كلَّهم تتابع خطواته مع زملائه، وكل قلوب الناس كما عيونهم مشدوهة تدعو لسلامتهم وبلوغهم برّ الامان غير المحاصر بالسجن.
كان من الممكن ألّا يكون النفق، وما كان الأمر ليخطر ببال أحد. الانشغال العام في هذا الصدد كان باحتمال صفقة تبادل أسرى، ومن ستشمل وبأية شروط. الكل يقفون على بوابتها ينتظرون أن تشملهم، حتى وإن أدركوا بأنه لا صفقة تستطيع تحرير جميع الأسرى، فالأسرى نتاج احتلال، وما دام الاحتلال قائمًا، سيكون هناك أسرى وسيكون شهداء وستكون ضحايا. فالأسرى كما عائلاتهم ينتظرون إما صفقة تبادل في حال توفرت أو مفاوضات في حال توفرت. ما هندسه محمود لم يكن نفقَا للخروج من جدران السجان ودولته فحسب، بل نفق الانتفاض على الحالة الفلسطينية غير المحرِّرة وغير المحرَّرة، فليس من الطبيعي أن يقوم الأسير بتحرير نفسه، بل إن هذا هو دور الثورة وحركتها المغيّبَتين.
لقد وضع النفق قضية الأسرى في صدارة الوجدان الشعبي الفلسطيني وبمساحات جديدة من الرأي العام العالمي، ليس من باب التعاطف بل التضامن المستلهِم من الأسرى الستة محمود ويعقوب وأَيهَم وزكريا ومحمد ومناضل. كما ستبقى فتحة النفق علامة فارقة انحفرت في ذهنية دولة الاحتلال بعد أن عصف باستعلائها وبهوسها الأمني، وفي ذهن الشعب الفلسطيني الذي أدرك أنه قادر على عيش لحظة انتصار، إن وجدت الإرادة.
أعاد النفق الاعتبار للأمل الفلسطيني المتآكل، وأضاف إلى هبة الكرامة كرامة، وأكد أنه كلما ناضل الشعب الفلسطيني، سيكتشف في صفوفه طاقات خلاقة لا تكشفها الحياة العادية بل تحتاج إلى نفق يؤدي لها. لقد جعل الإرادة شعار المرحلة فإن توفرت تلامس المستحيل وإن غابت فيستحيل كل المعنى إلى نكسة.
بدأت التفاصيل تغيب شيئا فشيئا عن صخب الذاكرة العامة، لتبقى فتحة النفق هي العلامة الفارقة ما بين ما سبقها وما تلاها. إنها ليست حدثا، بل حالة صنعها أصحاب إرادة. إنها إرادة أثارت حالة نهضوية، أشغلت نساء رجال السياسة والإعلام والتربية والثقافة والإبداع والفنون، أشغلت الأطفال والأجيال الشابة وكبار السن، وأحيت روح الشعب وعززت حراكه. إننا بصدد درس فلسطيني بأن حالة الهزيمة تهزمها الإرادة حين تتوفر، فالنفق أمانة. وقد حمّلنا إياها محمود ورفاقه.
كاتب المقال: أمير مخول وهو كاتب وسياسي.
استعمال الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected]ـ