أمام عائلات الأسرى وذوي الشهداء: إسرائيل، بكل جبروتها، ضعيفة ومقطوعة من شجرة

عندما أشاهد صور الطفلة المعجزة ميلاد وليد دقة، وهي تتظاهر أسبوعيًا مطالبة بالإفراج عن والدها المريض، وعندما كنت أشاهد صورها مع أمها تزوره في سجنه خلال الأعوام القليلة الماضية، وعندما شاهدت صورها عند ولادتها، بعدما حملت بها أمها عبر نطفة مهربة من زوجها الصامد في السجون الاسرائيلية منذ عام 1986، عندما أشاهد هذه الطفلة المعجزة بولادتها وبالمسيرة النضالية التي بدأتها قبل نعومة أظفارها حتى، أتساءل في كل مرة أي إصرار هذا الذي يتمتع به شعبنا، أيُّ عناد؟ أيُّ إيمان؟! وكم هي عظيمة هذه القضية التي تخلق هذا الايمان في قلوب أبنائها؟!

في التعريف الأولي والبسيط لعبارة الوالدية، هي عملية عكس الأدوار حيث يكون الطفل مُلزمًا بالتصرف كوالد تجاه والديه أو أشقائه. هل لكم أن تتخيلوا إلى أي حد تتجلى الوالدية في مشهد هذه الطفلة، ميلاد، التي منذ ميلادها تناضل من أجل أبيها، والتي بمجيئها أصلًا إلى هذا العالم، كانت هدية ومكافأة لوالدها، أكبر بكثير من المفهوم العادي أن أطفالنا هم هدايانا في هذه الدنيا.

أنهى وليد دقة محكوميته بالسجن 37 عامًا ومرض بالسرطان وتم استئصال رئته ويعاني من حالة صحية صعبة جدًا، ورغم ذلك ترفض السلطات الاسرائيلية الإفراج عنه، بحجة أنه يقضي محكومية إضافية أضيفت على محكوميته بالسجن لمدة عامين. ويشعر المرء بغصة كبيرة عند التفكير في قصة وليد، هذا الأسير الذي قاوم وعاند السجان ونجح مع زوجته سناء بجلب روح جديدة على الحياة رغم أنف أعداء الحياة، واقترب من تحرره أكثر من أي وقت مضى، فداهمه المرض، الذي جاء كالعادة بين الأسرى مصحوبًا بإهمال طبي متعمد، وتعنت ممزوج بالحقارة في عدم الإفراج عنه رغم حالته. وإذا كان الواحد منا يشعر بهذه الغصة بسبب ما حصل ويحصل مع وليد، فكيف يكون شعور زوجته وابنته؟! ولكن رغم ذلك، فإننا مع كامل يقيننا أن وليد دقة انتصر بصموده وانتصر بجلب ميلاد إلى هذه الدنيا، نثق بالإرادة الإلهية بأن يخرج وليد في أقرب وقت وأن يُشفى ليكمل حياته مع عائلته. 

وبجانب قضية وليد دقة الاسطورية، هنالك بحرٌ من القضايا، لأسرى ولشهداء، وتحديدًا لعائلات أسرى وشهداء. فبينما يكون الاهتمام عادة على الأسير أو على الشهيد، تغيب عن الناس حالة عائلاتهم، الأمهات اللواتي يُمنعن من زيارة أولادهن في السجون، الأطفال الذي يُمنعون من زيارة آبائهم وأمهاتهم في السجون، الأطفال الذين جاءوا إلى هذا العالم عبر معجزة تهريب النطف، كميلاد. الأطفال الذين هم في حد ذاتهم أساطير ومعاناتهم المستمرة في البعد عن الوالد الذي لم يتسن لهم رؤيته أصلًا. عائلات الأسرى بشكل عام. والأكثر إثارة للألم، أمهات الشهداء وخصوصًا اللواتي ما زلن ينتظرن جثامين أولادهن لتشييعها. تخيلوا، تخيلوا كيف تحاول إسرائيل تقليص طموح هذا الشعب بأن يكون حلم العائلة أن تدفن ابنها، في ظاهرة غير مسبوقة في العالم الحديث لما فيها من هذا الكم من السوء والشر. ورغم كل ذلك، ورغم كل هذه المعاناة ورغم كل الممارسات الإسرائيلية المتعمدة بحق هذه العائلات، تجد إسرائيل نفسها عاجزة عن وقف قطار النضال، تجد نفسها صغيرة أمام أم تزغرد في تشييع ابنها، تجد نفسها غريبة أمام بحر من صور الشهيد خضر عدنان في حسابات التواصل من فلسطين ومن كل الشرق الأوسط، تجد نفسها مقطوعة من شجرة أمام هذه العائلة الكبيرة والمتجذرة التي تسمى "الشعب الفلسطيني" رغم ما في داخلها من خلافات وشوائب. تجد نفسها ضعيفة رغم ترساناتها ورغم الدعم الغربي لها، أمام إصرار هذا الشعب وإيمانه بقضيته.

تعمدت إسرائيل ترك الأسير الشيخ خضر عدنان يموت في إضرابه عن الطعام. تعمدت ذلك، كي تقتل هذه الوسيلة الاحتجاجية، فهي عرفت أن رد الفعل يمكنها أن تحتويه، بسبب عوامل عديدة، بعضها مؤسف طبعًا، وأن كل أسير سيهدد لاحقًا بالإضراب ستقول له مصيرك سيكون مصير خضر عدنان. وطبعًا احتجزت جثمانه. وغم أنه مات بسبب إضرابه عن الطعام ورغم أنه لم يعتقل بسبب قيامه بعملية أو ما شابه، لكنها احتجزت الجثمان، في تصرف ليس غريبًا عنها، لكنها لم تتوقع مشهد أولاده يقودون المسيرة بعد وفاته، يرددون اسمه ويهتفون بأعلى صوت كأنهم مجموعة رجال أشداء، أرادت كسر الأسرى وكسر عائلاتهم فوجدت نفسها باهتة وصغيرة أمام عظمة هؤلاء الأطفال. وجدت نفسها كما قلت سابقًا، مقطوعة من شجرة أمام هذه العائلة الكبيرة التي تسمى "الشعب الفلسطيني".

رحم الله شهداء هذا الشعب

وأفرج الله بالحرية عن الأسرى، عن وليد دقة وكل رفاقه

ولا نامت أعين الجبناء


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن "فارءه معاي" او القيمين\ات عليها.

* الصورة داحل النص للفنان محمد سباعنة والصور ة المرفقة مع المقال يتم استخدامها بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

بكر جبر زعبي

كاتب وصحافي ومحرر موقع "بكرا"

شاركونا رأيكن.م