منذ بداية هذه الحرب وهو يشرب كلّ ليلة ويغني حَتّى الصباح بصوته البشع ثمّ ينام النهار كله، لكن... ليلة البارحة كان صوته أكثر بشاعة، عندما دخلنا صباحاً غرفتهـــــ أنا وأخي الصغير ـــــ عثرنا عليه ميتاً فوق سريره، أخانا الكبير.
قُتلتْ خطيبته في بداية الحرب، فأنفق ثمن ذهبها على الخمور السيئة. لم يغادر غرفته خلال سنوات الحرب إلا نادراً، يسهر الليالي يشرب ويغني في أثناء القصف، ويكتب على أوراقه أشياء غريبة يقول إنها شعر، ما أبشع صوته، فعلاً... ما أبشع صوته.
أشعل أخي الصغير سيجارتين لنا، أخذتُ واحدة منه وهمستُ له:
- أصغر عائلة في حارتنا صار لديها شهيد واحد على الأقل، ونحن حتى الآن عائلة دون شهيد... أشعر بالخجل، أفكر أن نحمل جثته إلى أيّ مكان قد يتعرض للقصف، وبعد قصفه نرجعه لنأخذه وندفنه على أنه شهيد وليس شاعراً، تحسين سمعة، سمعته وسمعتنا.. ما رأيك؟
هزّ أخي الصغير رأسه موافقاً على خطتي، غطينا الجثة باللحاف، لنحملها ونخرج من دون أن تنتبه أميلنا، أمي المشغولة بصلواتها منذ بداية الحرب، وقد صارتْ صلواتها –بسبب الحرب–أطفالَها المدلّلين، لا نحن.
أعتقد أنهم سوف يقصفون المدرسة، وضعنا الجثة جانب بابها وابتعدنا لنراقبها عن كثب، قصفوا المخبز.
أخذنا الجثة إلى مخبز آخر، لنضعها قريباً منه ونراقبها من بعيد ونراقب الطائرات الحربية في السماء، قصفوا سوق الخضار.
منذ أيام انزعج منّا الحاج أحمد عندما ذهبنا لتعزيته بابنه حميد، أغضبه غياب أخينا الكبير، سخر منه أمام المعزين:
- طبعاً هو الآن يشرب ويغني بصوته البشع...
كررها أكثر من مرّة في خيمة العزاء أمام المعارف، فأدمى وجهينا خجلاً، أنا وأخي الصغير.
لا مشكلة يا حاج، الآن... قذيفة واحدة ويصير أخونا الكبير شهيداً، وعندما تأتي لتعزينا سوف نسخر من عائلة "بيت حماك" الذين لا شهيد لهم حتى الآن...
مرّتْ ساعات النهار وبدأتُ أفقد صبري، الناس في فوضى القتلى في الشوارع لم ينتبهوا لنا، عادة يقصفون المستشفيات، حملنا الجثة إلى المستشفى لنضعها جانب بابها، وابتعدنا... نظرتُ إلى السماء وصرختُ على الطائرات الحربية وأنا ألوح لها غاضباً، وأشير بسبابتي جهة جثة أخي الكبير:
- هييييه، أيها الطيار... أرجوك، انتبه، هذا الرجل بحوزته قنبلة، ولديه مشاعر سلبية تّجاه الدولة، اقصفه...
قصفوا داراً للأيتام، حملنا الجثة مجدداً، كان اللحاف قد انزاح عن وجهه الشاحب، وكان حزيناً، همستُ له بغضب:
- كم دفعت لأولئك الطيارين حتى لا يقصفوك؟
وكعادة الموتى لا يجيبون، لم أحصل من جثته على إجابة.
اقتربنا من باب الجامع، أجلسنا أخي المتدثر بلحافه على الرصيف، وبسطنا يده ليبدو شحاذاً.
- لا تقلق، خرجنا بك من بيتنا شاعراً، أنت الآن بجانب الجامع شحاذٌ، لكن بعد قليل سوف نأخذك إلى المقبرة شهيداً، من شاعر إلى شحاذ ثمّ شهيد، إنه تطور تدريجي إيجابي للسمعة، لا تقلق...
ابتعدنا عنه لنراقبه ونراقب سماء الطائرات الحربية خلسة من خلف تلك الشجرة، وفجأةً، سقطتْ علينا قذيفة، قتلتنا فوراً أنا وأخي الصغير.
اقترب ببطءٍ منّا وانحنى أخي الكبير على جثتينا بهدوءٍ، ثمّ بكى بصمت وهو يمسح بحنان الدماء عن وجهينا، غطانا بلحافه وحملنا معاً إلى البيت.
كانت الشمس قد غربت، عندما أدخلنا إلى غرفته ومدد جثتينا على سريره كيفما اتفق.
جلس جانبنا، وطوال الليل وهو يمسح دماءنا، ويشرب من خمره السيء ويغني لنا، يشرب ويغني، يشرب ويغني ويمسح دماءنا، يشرب ويغني و... ما أجمل صوته.

 

الريحانية: 7/8/2016


كاتب القصة: مصطفى تاج الدين الموسى وهو كاتب وصحفي ومسرحي سوري، مقيم في تركيا، صدرت له عدة مجموعات قصصية ومسرحية، حازت كتاباته على عدة جوائز أدبية، وترجمة إلى عدة لغات عالمية.

مصطفى تاج الدين الموسى

كاتب وصحفي ومسرحي سوري، مقيم في تركيا، صدرت له عدة مجموعات قصصية ومسرحية، حازت كتاباته على عدة جوائز أدبية، وترجمة إلى عدة لغات عالمية

شاركونا رأيكن.م