الحلّيصة| نصف ساعة من الإحتجاج وفسحة من الأمل

امرأة خمسينيّة، ابنة الحليصة، الحي الصامد في حيفا، مالت برأسها نحوي وهمست بصوت شبه مكتوم " كيف بدنا نحارب المافيا وهنِ قاعدين بيناتنا؟ شوفي عيونه كيف بقدحوا شرار! مش عاجبته الوقفة لازم نخلص ع السريع"

الكثير من الغضب في صوت "م" ابنة الحي وصديقة المغدورة، في محادثة جرت بيننا عقب الجريمة حول ما يمكن فعله احتجاجًا على مقتل إبنة الحي، ميسّر عثمان، بجيل ثمانية وعشرين، التي قتلت بالرصاص في بيتها وعلى مرأى من أطفالها الأربعة. اعتبرنا تنظيم فعاليّات احتجاجيّة ورفع الصوت المندّد بالعنف والقتل المتزايد خطوة أولى ضروريّة. فدعونا مع مجموعة من الناشطات في الحيّ إلى اجتماع طارئ للاتفاق على الخطوات المندّدة بما آلت إليه الأحوال في الحلّيصة، والذي تقرّرت خلاله بمبادرة من أهل الحيّ وقفة احتجاجيّة في ساحة الحلّيصة. خلال الوقفة عبّر العديد عن غضبهم ورفضهم للجرائم، وعن الشعور السائد بأن الكيل قد طفح، على حد تعبير "م".

كانت ميسّر الضحيّة الرابعة ضمن ثلاث عشرة امرأة قتلن خلال عام 2021 في المجتمع العربي. اعتقل ثلاثة أشخاص إثر الجريمة، وأطلق سراحهم بعد شهور معدودة من التحقيقات الهزيلة، لتضمّ القضيّة إلى مئات الملفات "المعقّدة" بحسب وصف الشرطة، ولتصبح ميسر ضحيّة أخرى يقتلها الغدر الذكوريّ دون أيّ حساب.

وقفات غضب تُغضب المجرمين

تنظيم هذه الوقفة في ظل كلّ هذا السواد وتوالي جرائم القتل في الحي، ليس إلا "تنفيسة" مؤقّته لإخماد النيران في نفوس أهل الحيّ المفزوعين من هول الجريمة، هذا ما جال في ذهني هناك.آليّة احتجاج لا ترقى لبشاعة المشهد. وفكّرت بأن الأجدر بنا كان أن نكثّف الجهود لتوجيه أصابع اتهام صريحة نحو القتلة وكل من تآمر وتقاعس في حماية ميسّر وغيرها، من جهات مسؤولة ومجتمع لا مبالي. لكن "م" فاجأتني بقولها، "هذا اللي منقدر عليه… تفكريش هويّن نهتف ضدّ القتل في الحي أو ننظم وقفة".

لم أفهم قصدها في حينه. لكن إذا كانت الوقفة هي المطلوب، فليكن! سأفعل ما بوسعي من تنظيم وحشد ومساعدة. هذه الخبرات التي اكتسبتها بعملي في جمعية كيان – تنظيم نسويّ، على مرّ سنوات من العمل في قسم التنظيم الجماهيريّ مع المجموعات الناشطة في القرى والبلدات العربيّة، أما القرار بالنهاية فيعود للناشطات في الميدان، لأننا نؤمن بأن صوت الناس على الأرض هو

البوصلة والنساء هن نبض الشارع

شارك أبناء واخوات ميسّر المغدورة في الوقفة الاحتجاجية، وسط ومضات آلات التصوير، التي كانت تتسارع لالتقاط رعشة يد أو دمعة لتحولّها إلى خبر ، لينتهي أمر الضحيّة في اليوم التالي. وفي هذه الأجواء صرخت إحدى الحاضرات "هذول أطفال فقدوا أمهن … ما تصوروهن عيب!" وقفت أخت ميسّر بين الحضور ممسكة بأيدي أبناء المغدورة وتضمّهم بقوة كأنّها ركام بيتهم الأخير وقالت "هذول الأطفال كانوا شاهدين، أعدموها قدّامهن… كلنا منعرف مين هني، الشرطة وكل العالم بعرف مين قتلها". ميسّر، هي التي تنبأت بمقتلها قبل أيام وشاركت على حسابها في فيسبوك بحملة تندّد بقتل النساء، فنشرت صورة لوجهها الجميل وتحته عبارة "حقّي أعيش بأمان!" لم تكن تعلم حينها أنها الضحيّة القادمة.

وقفة عن وقفة بتفرِق

صمت ووجوه بلا ملامح، نساء الحيّ ورجاله مصطفّون جنبا إلى جنب والخوف كالظل من فوقهم. شعور غريب لم أفهمه، إلى أن جاءت همسة "م" في أذني "لازم نضبضب حالنا ونخلص. شايفة هذول اللي قاعدين هناك؟ هذول هني اللي منتظاهر ضدهن، وصلتني رسالة من واحد فيهن إنه نضب الطابق معانا 5 دقائق ونفكها"
صدمتني هذه المواجهة مع الواقع وفكرت في نفسي، يا الله! كيف لهم ان يستوطنوا بيننا الى هذا الحد؟ من هذا الوحش الذي ينمو في حاراتنا؟ يفتك بنا ويعتاش على مآسينا، ثم يأذن لنا بنصف ساعة

من الاحتجاج! من هذا الذي يراقبنا من بعيد ينظر الى ساعتهِ مؤشرا "يلا انتهى وقتكوا… كل واحد ع بيته" أدركت حينها ما كانت تقصدهٌ "م"، فهي ابنة الحي وتعي جيداً ما تقول. كاد اليأس يتملّكني، إلى أن خرجت الحناجر الغاضبة عن صمتها لتهتف متحدّية أنياب القتلة "ارحلوا عنا" فأدركت أن وقفة احتجاجيّة في عقر دار المجرمين هي ليست مجرّد تنفيسة كما حكمت قبل ذلك، بل هي إحياء لكلّ ما مات فينا، ورفض لذلّ الخنوع. هذا هو التغيير الحقيقيّ- أن نجرؤ على مواجهة المجرم في أحيائنا، وليس في المساحات المريحة والآمنة التي لا تثمر أكثر من تنفيسة.

الحلّيصة والنكبة المستمرّة

الحلّيصة حي عريق في شرق مدينة حيفا، يعتقد أن اسمه يعني" أحلست الأرض" أي أصبحت خضراء وملساء. في جولتنا السريعة في شوارعه لم نصادف الأرض الخضراء أو الملساء، بل مبان مكتظّة وأخرى مهجورة بذريعة كونها غير مؤهّلة للسكن، بنية تحتيّة رديئة ومنظومة خدمات شحيحة ترتكز في غالب الأحيان على جهود وموارد أهل الحي. كل هذا نتاج سنوات من سياسة تهميش الحيّ وعزله بشكل منهجيّ، حتى صارت الحليصة نموذجًا للمصير الذي تواجهه الأحياء العربيّة منذ نكبة فلسطين حتى اليوم. فبعد أن خاضت هذه الأحياء معارك وجود وصمود كثيرة تمارس السلطات ضدّها سياساتها الانتقاميّة التهجيريّة، التي تعمّدت إقصاءها وعزلها عن محيطها الثقافيّ والسياسيّ، إلى أن حوّلتها إلى دفيئة للجريمة المنظّمة ووكرا مُحصّنا بعيدا عن الأنظار أو يد القانون.

"شايفة هاي البناية العالية… أخذوها اليهود، صاحبها باعها والمقاول بيجي الصبح قبل لحدا يشوفه، لأنه بعرف إذا شفناه رح نتف بوجه" قالت لي نادية صديقتي ابنة الحي والشاهدة على احتدام الأزمة السكانيّة فيه، والتي سبّبتها مخطّطات التهجير التي فُرضت على أهالي الحيّ على مدار سنوات طويلة. الحلّيصة حيّ عربيّ في مدينة تتباهى بالتعايش لا يزال بدون خارطة هيكليّة أو خطط تطويريّة تعامل أهله معاملة مواطنين أصحاب الحق. هذه الأزمة وسياسات الإهمال والتهميش هي ما يدفع بالناس إلى اليأس ويشكّل أرضيّة خصبة لتفاقم العنف وانتشار الجريمة.

ثبات على الحقّ بالأمان

"قلولهن بكفي! مش رح نتعب لحتى ننام ببيوتنا بأمان!" صرخت "م" وسط الحضور في الوقفة الاحتجاجية، و ردّدت نساء الحي الهتاف من ورائها "بكفي!"، وهي التي صارحتني قبل قليل بمخاوفها من تداعيات الوقفة وقلقها من ردّ فعل عصابات الإجرام، أو على حدّ تعبيرها، تخوّفها من أن تفتح عليها "عش الدبابير". لكنّها تحوّلت في تلك اللحظة إلى قائدة أبيّة تلتفّ من حولها نساء الحي، وتستمدّ شجاعتها من وجوههنّ الغاضبة، فنطقت بلسان حالهنّ جميعاً "دم ميسّر ودمنا مش رخيص" فُكلنا ميسّر، أو كما قالت إحدى الحاضرات "كُلنا مهدّدات، من الأم للبنت، تعلمنا كيف نعيش مع الخوف!"

التقيت الناشطات في الحيّ لأوّل مرّه قبل أربع سنوات، خلال حملة 16 يوم العالميّة لمناهضة كافّة أشكال العنف ضدّ المرأة، التي تنظّمها جمعيَّة كيّان في البلاد كل سنة. وخلال ذلك اللقاء قالت لي إحدى المشاركات "بنتي انقتلت قبل سنين، طليقها قتلها وحرق قلبي، أبوه بكلّ وقاحة نزل معنا ع المظاهرة ولا كأن القاتل من صلبه ولحمه وتربيته، اليوم أبوه رئيس بلدية بحل وبربط".

تعمل "م" وشريكاتها الناشطات ضمن مجموعة نسائيّة تحتضن نساء الحيَّ وتوفّر لهنّ مساحة آمنة، في مكان يعجّ بالخوف. تحرص الناشطات على رفع الوعي وسط النساء ومنحهنّ المعلومات اللازمة بالإضافة إلى الدعم المعنويّ والاحتواء الإنسانيّ والمهنيّ. ويطمحن لإحداث تغيير حقيقيّ في الحيّ بمساعدة ومرافقة المؤسّسات المهتمّة بالتغيير المجتمعيّ. نحن في كيان نرافق وندعم بالتدريب والاستشارة مجموعات من الناشطات والقياديّات في العديد من البلدات العربيّة منذ سنوات طويلة، ونساند مجموعة الحليصة كما نفعل مع كل مبادرة تسعى لبناء مجتمع خال من العنف الذكوريّ. التغيير المجتمعي هو عمل تراكمي طويل الأمد لا يقتصر على رد الفعل على كل جريمة فحسب. وإذا اختلط الغضب هذه المرّة بشيء من الخوف، فلا بد ان يتحوّل هذا الصوت المرتعد يوما إلى صرخة مدوية. حتى ذلك الحين نساند النساء ونقف مع الناشطات في الصفوف الأماميّة بكلّ ما أوتينا من خبرات وموارد.


كاتبة المقال: هاجر أبو صالح – طيبي وهي عاملة اجتماعية ومركزة مشاريع في جمعية كيان – تنظيم نسوي.

ملاحظة: كُتِبَت هذه المادة بعد مشاركة الكاتبة في تنظيم وقفة احتجاجية على مقتل المغدورة ميسّر عثمان من حيفا عام 2021، وارتأت نشرها مجددًا مع استمرار واستفحال الجريمة في مجتمعنا وبشكل خاص الجرائم المفزعة لقتل النساء العربيّات. إذ يتراءى للكاتبة بأن الحليصة قد تكون صورة مصغّرة عن مجتمعنا وما مرّ به من إهمال ليُترك فريسة سهلة للإجرام المنظّم والجرائم الذكوريّة. تأتي هذه المادة أيضًا ضمن عملها في القسم الجماهيري في جميعة كيان – تنظيم نسوي، وفي سياق نضال الجمعية لمناهضة العنف ضد النساء وتسليط الضوء على ظاهرة قتلهن.

هاجر أبو صالح - طيبي

عاملة اجتماعية وموجهة مجموعات؛ ناشطة سياسية وجماهيرية ومركّزة مشاريع في جمعية "كيان- تنظيم نسويّ"

شاركونا رأيكن.م