الالتفاف الجماهيري المدهش حول خطاب الحركة الوطنية في أراضي 1948

أعتقد أن الحدث الأهم الذي شهده عام 2022 قبل انقضائه هو الالتفاف الجماهيري الذي يمكن توصيفه بأنه مُدهش من حول الخطاب السياسي للحركة الوطنية في أراضي 1948 والذي يرفع لواءه حزب التجمع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه، كما انعكس ذلك ببريق أخّاذ في النتائج التي حصل عليها هذا الحزب في الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت يوم 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022.

ولعلّ ما تجدر الإشارة إليه، قبل إجراء التحليل، هو أن "التجمع" اضطر اضطرارًا إلى خوض هذه الانتخابات ضمن قائمة منفردة للحزب بعد أن وقع اتفاقًا لخوضها في إطار استمرار القائمة المشتركة. وحدث ذلك نتيجة تنكّر الحلفاء السابقين في "المشتركة" لما تمّ الاتفاق عليه، تماشيًا مع نهج سياسي لم يسع "التجمع" القبول به، كونه يتناقض مع خطابه ومبادئه العامة. وربما يصدق على هذه السيرورة القول المأثور "رُبّ ضارّة نافعة".

وأعتبر ذلك بمثابة الحدث الأهم في عام 2022، نظرًا إلى أنه تسبّب بإعادة الاعتبار إلى مسألة تنظيم المجتمع الفلسطيني في إسرائيل وعدم التسمّر فقط عند موضوع تمثيله في البرلمان من جهة، ومن جهة أخرى فإنه جعل السؤال: لماذا نخوض انتخابات الكنيست؟ أكثر حدّة. ولا ريب في أن التداول في هاتين القضيتين سيستمر حتى بعد أن وضعت الانتخابات أوزارها.

وبطبيعة الحال فإن طرح القضيتين وتداولهما ينبغي أن يتمّا في ضوء آخر المستجدات في صفوف مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، وفي ضوء آخر المستجدات في إسرائيل، ومن غير التغاضي عن ماهية النظام السياسي الإسرائيلي أو سوء التقدير له.

ما حدث لفلسطينيي 48 في هذه الانتخابات، وبالذات على خلفية تفكّك القائمة المشتركة أعاد، بكيفية ما، قدرًا كبيرًا من الوهج إلى الفكر السياسي الذي طرحه المفكر عزمي بشارة وحزب التجمع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه في أوائل تسعينيات القرن الفائت، نظرًا إلى أنه انطوى من جهة على مواجهة الفكر الصهيوني من منطلق فهمه العميق لتناقضاته الداخلية، ومن جهة أخرى اشتمل على تقديم مشروع فكري سياسي ديمقراطي من شأنه أن يفجّر هذه التناقضات. وقد اعتمد هذا المشروع الذي طرح فكرة "دولة كل مواطنيها" كشعاره الأساسي، أولًا على القوة الكامنة في الهوية القومية وفي مواطنة الفلسطينيين في الداخل، وثانيًا على إمكانات تفعيلهم في كشف الغبن الناتج عن فكرة الدولة اليهودية، وفي فضح تناقضها مع الأسس الأولية للديمقراطية.

فضلًا عما عناه تفكّك القائمة المشتركة من دلالات سياسية مهمّة، يمكن القول إن ما أثبتته هذه الانتخابات أيضًا أن القائمة العربية الموحدة تتعامل مع ذاتها كما لو أنها حزب إسرائيلي تقليدي يستطيع تحقيق إنجازات مدنية للمجتمع العربي في أراضي 1948، ما قد ينطوي على تغاضٍ عن ماهية النظام السياسي الإسرائيلي أو سوء تقدير له. وليس مبالغة القول إن القائمة الموحدة تقوم بتقليد أو باستيحاء تجربة الأحزاب الدينية اليهودية قبل عقود، عندما كانت هذه الأحزاب تشارك في الائتلافات الحكومية، بالأساس بناء على مصالحها الاقتصادية المتعلقة بمؤسساتها التعليمية وبمصالح جمهورها في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية. وفي نفس الوقت فإن جُلَّ النقد الذي يوجَّه إلى القائمة الموحدة، ولا سيما من طرف القوى السياسية التي تنتقدها، يتمحور حول الادعاء بأنها تتعامل مع المجتمع العربي على أنه مجموعة مهاجرين وليس مجموعة أصيلة في وطن. ولئن كانت مطالب المجموعات المُهاجرة (كالعرب الذين يهاجرون من الدول العربية إلى أوروبا أو أميركا أو أي بقعة أخرى في العالم على سبيل المثال)، تتمحور بشكل رئيسي حول الاندماج والحصول على مساواة اقتصادية واجتماعية، وإزالة العوائق أمام هذا الاندماج مع بعض الحقوق الثقافية، فإن مطالب مجموعات الوطن، على غرار مجموعة فلسطينيي 1948، تكون في العادة هي الاعتراف بحقوقها الجماعية الوطنية والقومية بالإضافة إلى المساواة المدنية الكاملة، مع المطالبة بتغيير جوهر النظام بما يتلاءم مع هذه المطالب، أي المطالبة بنزع الصفة العرقية أو الاستعمارية عنه. مؤدى هذا أن القائمة الموحدة تتصرَّف بقدر من التغاضي عن ماهية النظام الإسرائيلي من جهة، وعن طبيعة مطالب المجتمع الفلسطيني في إسرائيل من جهة أخرى. فضلًا عن ذلك فالحكومة الإسرائيلية المنتهية ولايتها واجهت بنفسها تحديات كبيرة في كل ما يتصل بقدرتها على الاستمرار، وظلت كل الوقت تحاول إثبات أنها يمينية بامتياز.

كما أنه ليس مبالغة القول إن قائمة الجبهة- العربية للتغيير ليست متحرّرة من التعامل مع ذاتها كما لو أنها حزب إسرائيلي. وما فعله "التجمع" هو أنه أقام فيصلًا بينه وبين هذا النهج الذي تتبناه في الظاهر قائمتان لكنه في الجوهر نهج واحد. وبرأيي هذا تطوّر سيكون له ما بعده في كل ما يخصّ كفاح مجتمعنا الفلسطيني في الداخل والحقل السياسي الفلسطيني عامة.

طبعًا كنّا نتمنى أن ينجح "التجمع" في اجتياز نسبة الحسم كي يكون هناك تمثيل للتيار الوطني المتنائي عن غايتي الاندماج والتأثير اللتين تمثلهما القوتان اللتان اجتازتا نسبة الحسم، وكي يكون سدًّا يحول دون تدهور الحقل السياسي الفلسطيني في الداخل إلى حضيض جديد من التشويه والأسرلة، وكي يعكس مواقفه من منصة البرلمان، ولا يترك الساحة لممثلي التشويه والأسرلة، كي يسرحوا فيها بدون رقيب أو حسيب. مع ذلك، لا بدّ من القول إن "التجمع" نجح في أن يحقّق ما هو أبعد من هدف اجتياز نسبة الحسم، إذ نجح في تحقيق غاية جَوهَرة جدل المعركة الانتخابية حول الخطاب السياسي الوطني، ونجح كذلك في إعادة اللُّحمة إلى صفوفه، بوصفه طليعة الحركة الوطنية. وسيظل يتحمل المسؤولية عن كل هذا، وعن كل مساعي تكريس ما تحقق. كما أفلح في أن يستقطب من حوله، نسبة كبيرة من أصوات الأجيال الشابة، ما يحيل إلى أنه رهان المستقبل بالنسبة إلى هذه الأجيال وإلى مجتمعنا عمومًا، وهذا أمر مهم للغاية، سواء في حاضرنا أو في المستقبل.

وأرى وجوب تكرار أنّ النتائج التي حصل عليها "التجمع" تثبت ما قلناه في السابق من أن له جذورًا، وأن وراءه شعبًا وحركة وطنية يحميانه من أي مؤامرات تعرّض لها، مثل المؤامرة الأخيرة قبل الانتخابات، وما قد يتعرض له، من أجل إقصائه والقضاء عليه.

وإجمالًا يمكن القول بملء الفم إن "التجمع" أصبح بمنزلة الرقم الصعب في مجتمعنا، والعنوان السياسي المُشتهى للأجيال الشابة الحالية التي تُعدّ عماد المستقبل.


كاتب المقال: أنطوان شلحت وهو كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

أنطوان شلحت

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

شاركونا رأيكن.م