الرسوم الباهظة في المحاكم الكنسيّة.. عبء على المتقاضين!

معضلات وإشكاليّات كثيرة تواجه المتقاضيات والمتقاضين في المحاكم الكنسيّة -وعلى الأخصّ النساء- ومن أهمّها: الرسوم الباهظة؛ عدم نشر القرارات والأحكام؛ انعدام الحسّاسيّة الجندريّة؛ استغراق الإجراءات سنوات عديدة... وكلّ تلك نعتبرها مسًّا بالحقوق الأساسيّة للمتقاضين والمتقاضيات. تتناول هذه المقالة الإشكاليّات في الرسوم الباهظة وكيفيّة تأثيرها على حقوق المتقاضين/ات عامّة والنساء خاصّة من الناحية القانونيّة والحقوقيّة والمجتمعيّة.

منظومة المحاكم الكنسيّة وصلاحياتها

المحاكم الكنسيّة في إسرائيل هي محاكم تابعة للطوائف الدينيّة المسيحيّة في البلاد؛ فلكلّ طائفة معترَف بها محكمةٌ دينيّة تابعة لها وخاصّة بها. الطوائف المركزيّة التي ينتمي إليها العدد الأكبر من المسيحيّين في البلاد هي: طائفة الروم الأرثوذكس؛ طائفة الروم الملكيّين الكاثوليك؛ طائفة اللاتين.

لكلّ محكمة كنسيّة قوانينها وإجراءاتها الخاصّة والمختلفة والمنبثقة عن القانون الكنسيّ الخاصّ بها. تتمتّع هذه المحاكم باستقلاليّة كبيرة، ولا تخضع لسلطة أو رقابة من قِبل وزارة القضاء، وتدير شؤونَها الإداريّة والماليّة على نحوٍ مستقلّ للغاية. الرقابة الوحيدة التي تخضع لها المحاكم الكنسيّة هي رقابة محكمة العدل العليا التي لها صلاحيَة في فسخ

قرارات المحاكم الكنسيّة في الحالات التي فيها يُمَسّ بأسس العدالة الطبيعيّة وبحقوق جوهريّة، إلّا أنّها نادرًا ما تتدخّل في قرارات هذه المحاكم.

للمحاكم الكنسيّة صلاحيَة مطْلَقة للنظر في قضايا الزواج والطلاق، نحو: فسخ الزواج؛ البطْلان؛ الهجر؛ الطلاق. أمّا في سائر القضايا المتعلّقة بالزواج والطلاق -كالحضانة والنفقة والميراث على سبيل المثال- فصلاحيَة هذه المحاكم مَنُوطة بموافقة الأطراف لمنح المحكمة صلاحيَة للنظر في القضيّة، عوضًا عن التقاضي في المحاكم المدنيّة (محكمة شؤون العائلة).

إشكاليّات الرسوم الباهظة في المحاكم الكنسيّة

تُعتبر إشكاليّة دفع الرسوم التي تفرضها المحاكم الكنسيّة المختلفة من أهمّ المعضلات والتحدّيات التي تمسّ بحقوق المتقاضين/ات عامّة، وجمهور النساء على وجه الخصوص. لا تخضع أغلبيّة المحاكم الكنسيّة لنظام واضح لدفع الرسوم؛ إذ لا وجود لنظام مفصَّل ومنشور. كذلك إنّ الرسوم التي تُدفع للمحاكم الكنسيّة هي رسوم باهظة جدًّا لا تراعي احتياجات المتقاضين والمتقاضيات. على سبيل المثال، رسوم فتح ملفّ دعوى بطْلان الزواج في المحكمة الكنسيّة البدائية لطائفة الروم الكاثوليك تبلغ 6,500 شاقل، ورسوم دعوى نفقة الزوجة 1,500 شاقل، وأمّا رسوم دعوى الطلاق لدى محكمة الأرثوذكس البدائيّة فتبلغ 6,000 شاقل[1]، بينما رسوم تقديم دعوى طلاق في المحكمة الشرعيّة هي 359 شاقلًا، ولا تُدفع رسوم في قضايا نفقة الزوجة والقاصرين. أمّا في المحكمة الرابانيّة، فرسوم فتح ملفّ دعوى طلاق تبلغ 396 شاقلًا. فرض الرسوم الباهظة له تبِعات كبيرة ومتعدّدة على المتقاضين والمتقاضيات وتمسّ بحقوقهم/نّ الأساسيّة. من هذه التبعات:

الحقّ بالمناليّة للقضاء: التوجُّه إلى المحاكم هو حقّ أساسيّ لكلّ إنسان يتعرّض إلى إجحاف أو تمييز، ولكلّ إنسان يُعتدى على حقوقه المنصوص عليها في القانون. يبدأ استعمال هذا الحقّ بواسطة التوجُّه إلى المحكمة ذات صلاحيَة النظر في القضيّة وفتح ملفّ دعوى أو تنفيذ أيّ إجراء قانونيّ آخر. القانون الإسرائيليّ شرّع فرْض الرسوم في فتح الإجراء في المحاكم بدفع رسوم التداول داخل المحكمة المعنيّة، حيث تُدفع الرسوم للمحكمة وَفقًا لنظام واضح يراعي ويُفصِّل ويحدِّد مبلغ الرسوم الواجب دفعها، بحيث يضمن عدم المساس بحقّ الإنسان الأساسيّ الدستوريّ بالتوجُّه إلى القضاء أو الحدّ من قدرته على التوجُّه إلى المحاكم والتداول فيها لنيل حقوقه القانونيّة. كما أوضحت المحكمة العليا بقراراتها وجوب مراعاة الحقوق الأساسيّة في تحديد الرسوم، وأشارت إلى أنّ ارتفاع الرسوم يردع المتقاضين عن ممارسة حقّهم الأساسيّ بالتوجُّه إلى المحاكم والمبادرة لفتح مسار قانونيّ. وَفقًا لقرارات المحكمة العليا، هذا الردع والمسّ غير جائزَيْن. في ما يخصّ المحاكم الكنسيّة، معظم هذه المحاكم تقوم بفرض الرسوم الباهظة عند فتح مسار قانونيّ، كما أوردنا آنفًا، وتقوم بتحديدها وَفقًا لمعايير مادّيّة، ولا تستند إلى نظام منشور، واضح وموحَّد، ضاربة بعُرض الحائط أيّ اعتبارات أخرى، بحجّة أنّها مستقلّة وتموّل نفسها بنفسها. هذا الأمر يمسّ مسًّا بالغًا بالمتقاضين والمتقاضيات ويحدّ من حقّهم في مناليّة القضاء.

الحقّ بالمساواة: فرض الرسوم الباهظة في التقاضي في المحاكم الكنسيّة يمسّ بالحقّ بالمساواة وينتهكه على مستويين: أوّلهما أنّه يرتبط بالتمييز على أساس الحالة المادّيّة؛ حيث إنّ الفجوات القائمة في فرض الرسوم بين المحاكم الكنسيّة والمحاكم الدينيّة الأخرى بل حتّى المدنيّة، تشكّل تمييزًا كبيرًا بين ذوي الحالة المادّيّة الجيّدة، التي توفّر لهم المقدرة على تحمُّل أعباء الرسوم، وذوي الحالة المادّيّة المتوسّطة أو المتدنّية الذين تشكّل هذه الرسوم عبئًا أكبر عليهم قد يمنعهم من التوجّه إلى القضاء. أمّا الثاني، فيرتبط بالتمييز ضدّ المتقاضين المنتمين إلى الطوائف المسيحيّة التي تعنيها هذه المحاكم مقارنة بمحاكم دينيّة أخرى مثل المحاكم الشرعيّة والدرزيّة والرابانية؛ فالمتقاضون المنتمون إلى الطوائف المسيحيّة التي تعنيها هذه المحاكم يدفعون مبالغ باهظة لفتح إجراء انفصال أو نفقة أو غير ذلك تعادل أضعاف ما يدفعه متقاضون ينتمون إلى طوائف دينيّة أخرى. هذا الأمر يخلق عدم مساواة وتمييزًا صارخًا مستنِدًا إلى الانتماء الدينيّ لدى المتقاضي لنَيْل حقوق أساسيّة.

علاوة على هذا، تخضع قضايا الطلاق والزواج في دولة إسرائيل إلى التشريع الدينيّ فقط، إذ لا زواج مدنيّ فيها، بل يجري الزواج والطلاق ضمن المؤسّسات الدينيّة ويخضع لقوانينها وشروطها، وللمحاكم الدينيّة وحدها، وحصريًّا الصلاحيَة في البتّ في قضايا الزواج والانفصال، ممّا يلغي أيّ خيار آخَر للزواج وللانفصال خارج إطار هذه المحاكم، ويُلزِم الأطراف بالتوجُّه إلى المحاكم الدينيّة ومن بينها الكنسيّة، لا محالة، ودفع الرسوم الباهظة لا محالة.

النساء هنّ الأكثر تضرُّرًا

قضايا الأحوال الشخصيّة التي يجري التداول بها في المحاكم الدينيّة تلامس بجوهرها حقوقًا فرديّة وجوهريّة وأساسيّة ودستوريّة، وذلك فيما يتعلّق بحقّ الفرد بحياة أُسَريّة، وكذلك الحقّ بالاستقلاليّة والانفصال ضمن الحياة الزوجيّة المشترَكة. هذه الحقوق تمسّ -في أساس مَن تمسّ- بالنساء اللواتي يرغبن في فتح مسارات من أجل وقف انتهاك حقوقهنّ وَ/أو الحصول عليها، كنفقة الأولاد والنفقة الزوجيّة على سبيل المثال، وهنّ في أمسّ الحاجة إلى فتح هذه المسارات وتقديم هذه الدعاوى والحصول على حقوقهنّ على نحوٍ مستعجل، بل فوريّ، وبخاصّة النساء اللواتي يعانين من حالة اقتصاديّة سيّئة ويقبعن في دائرة الفقر ويتعرّضن لعنف من قِبَل الزوج. كلّ ذاك يضاعف العبء الملقى على عاتقها، واحتياجها إلى طلب العون واستجداء العطف من الآخَر من أجل تقديم الدعاوى ودفع الرسوم الباهظة. وفي حالات أخرى، ممّا لمسناه من خلال قضايا تابعناها في جمعيّة كيان، لا تتمكّن النساء من التوجُّه إلى القضاء الكنسي بسبب الرسوم الباهظة، ويُضطرَرْنَ أن يبقَيْنَ تحت وطأة المعاناة ضمن حياة زوجيّة غير مرغوب فيها.[2]

المسؤوليّة تقع على عاتق الدولة والمحاكم الكنسيّة على حدّ سواء!

ما ذُكر أعلاه من انتهاكات للحقوق الأساسيّة وتداعيات مادّيّة وقانونيّة على جمهور المتقاضين/ات في المحاكم الكنسيّة، والمسؤوليّة لإيجاد حلّ جذريّ له، لا يقع على عاتق المحاكم الكنسيّة فحسْب، بل يقع كذلك على عاتق الدولة؛ فهي مسؤولة إلى حدّ كبير عن وجود هذا الوضع السيّئ، بتغاضيها أو حتّى قبولها باستمرار هذا الوضع لسنوات طويلة، وفي هذا قبول للتمييز والمساس بالحقوق. يجدر بالإشارة أنّ المتقاضين والمتقاضيات في المحاكم الكنسيّة الذين يجري تمثيلهم بصورة مجّانيّة من قِبل الدولة لا تقوم الدولة بتغطية رسوم فتح ملفّاتهم لدى المحاكم الكنسيّة، ويُلزَمون بدفعها كاملةً بخلاف ما نجد لدى المتقاضين في المحاكم الدينيّة والمدنيّة الأخرى.

من خلال تجربة كيان في المرافعة أمام المحاكم الكنسيّة وتمثيل النساء، وكذلك من خلال انكشافنا على تجارب محامين ونساء، نرى أنّه ثمّة حاجة ملحّة وضرورة مستعجلة لوضع حدّ لهذا الوضع، ويجب على الدولة وعلى المحاكم الكنسيّة -على حدّ سواء- إيجاد حلول جذريّة ووافية، تشمل تخفيضَ الرسوم الباهظة على وجه العموم وفرْضَ رسوم معقولة وَفقًا لمعايير موضوعيّة واضحة تراعي حقوق المتقاضيات والمتقاضين، ونشْرَ نظام يقرّ معايير واضحة للإعفاءات والتخفيض من الرسوم الباهظة، بحيث تراعي حقوق المتقاضين والمتقاضيات ووضعهم المادّيّ.

الإحالات:

للاستزادة في هذا الشأن، شاهد بروشور الرسوم الذي نشرته جمعيّة كيان - تنظيم نسويّ في العام 2016

تعمل جمعيّة كيان - تنظيم نسويّ على تعزيز مكانة وحقوق النساء العربيّات في مجالات وأطر عدّة، بما في ذلك تمثيلها أمام المحاكم الدينيّة والمدنيّة، وتوفير الاستشارة والمساعَدة القانونيّة المجّانيّة للنساء في عدّة مجالات، ومن ضمنها مجال الأحوال الشخصيّة.

المحامية ألحان نحاس – داوود

المستشارة القانونية لجمعية كيان- تنظيم نسوي

شاركونا رأيكن.م