الأول من أيار والحرب على الديمقراطية في أوكرانيا

يشكل الأول من أيار/مايو 2022 فرصة لليسار في البلاد وفي العالم لإعادة التفكير بالطرق التي يجب تترجم بها القيم الإنسانية والمبادئ النبيلة التي اقترنت طوال عقود بهذا اليوم الذي يعتبر يوم العمال العالمي. واجب القوى اليسارية التي تريد أن تبقى ذات تأثير وتحتفظ بالمغزى التقدمي لأفكارها ودورها التاريخي هو صياغة الطرح بشكل جديد يتلاءم مع الواقع وأن تبتعد اليوم عن ترديد الشعارات القديمة والتقوقع في المواقف نفسها وتكرارها.

جاء الغزو الروسي لأوكرانيا، في الـ 24 من شباط/ فبراير الماضي، بمثابة زلزال هزّ السياسة العالمية، فحملة الجيش الروسي التي تهدف إلى السيطرة على أوكرانيا وتغيير النظام فيها من خلال ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الأعزل تحمل أهمية كونية على المستوى الإنساني والحقوقي والإيديولوجي. وما يزيد الأمور تعقيدا التأييد السياسي الذي تحظى به موسكو في حربها من قبل الكثير من دول العالم، لاسيما دول العالم الثالث بما فيها الساحة الفلسطينية وحتى من حركات ومفكرين يساريين.

نمو التيار الشعبوي اليميني الجديد

منظر الأعلام الحمراء على متن دبابات الجيش الروسي المحتل لأوكرانيا دفعت بمن يحنون للاتحاد السوفييتي والشيوعية إلى تبرير موقف بوتين باعتباره منافسا للهيمنة الأمريكية من دون أن يلتفتوا لحقيقة بأن بوتين يدير نظاما رأسماليا رجعيا دينيا، وبأنه يلعب اليوم دورا قياديا وخطيرا لقوى وأنظمة سياسية يمينية شبه فاشية، والتي تحتل في الكثير من دول العالم دورا مركزيا ومؤثرا.

ما نراه في دول الغرب الرأسمالية من تغييرات سياسية عميقة هو من دون أدنى شك نتيجة مباشرة للعولمة ولاعتماد الولايات المتحدة وأوروبا منذ سنوات الـ 80 للقرن الماضي لنمط الرأسمالية المتوحشة “النيوليبرالية”، ما أدى إلى تعميق الفجوات الطبقية وانهيار الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها الدولة، في حين دفعت الثورة التكنولوجية الحديثة وعولمة الاقتصاد عمالا وحتى مدراء من دول العالم الثالث للانخراط في المجتمعات الغربية، كما أدت الهجرة الى دول الغرب الصناعية إلى تنوع هذه المجتمعات مما أدى الى تقليص نسبة السكان البيض الأصليين من مجمل السكان في أكثر من بلد. وقد رأينا في المقابل عزوف شرائح واسعة من العمال عن العمل في المصانع التقليدية مثل مناجم الفحم وصناعة السيارات والفولاذ، نتيجة التكنولوجيا الجديدة وانتقال خطوط الانتاج إلى دول شرق آسيا.

وكانت النتيجة لهذا التطور زيادة الميل للتطرف الديني والقومي في العالم بعكس عولمة الاقتصاد ووسائل النقل والتطور المخيف في مجال التكنولوجية وتبادل المعلومات. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة في قلب المراكز الصناعية الغنية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة قوة شعبوية يمينية عنصرية معادية للمهاجرين وتميل للدين والتقليد وتأخذ من الشرائح الفقيرة البيضاء المهمشة اقتصاديا وثقافيا قاعدة لها. ونرى كيف تحول بوتين ""الزعيم القوي"" الذي يتحدى الغرب رمزا لهذا التيار العالمي الخطير.

المثير في فهم هذا الواقع الجديد هو ظاهرة انتقال شرائح كبيرة من الطبقة العاملة في دول الغرب، التي شكلت في الماضي ركيزة النقابات العمالية وأحزاب اليسار إلى اليمين واعتمادها أفكار عنصرية وكراهية المهاجرين. فقد رأينا كيف دعم الناخبون في مدن بريطانية التي كانت خلال أكثر من مائة عام قاعدة ثابتة لحزب العمال خيار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ""بريكست"" اليميني العنصري. كما رأينا كيف حظي ترامب بدعم شرائح عمالية واسعة.

الوقوف مع العمال الفلسطينيين والديمقراطية في العالم العربي

على الساحة المحلية في إسرائيل نشهد استعداد بعض نقابات العمال والطبقة العاملة لدعم اليمين بموقف نقابة ""الهستدروت"" القوية والمؤثرة التي تغض الطرف عن العمال الفلسطينيين وتتجاهل معاناتهم. وإزاء ما نراه في السنة الأخيرة من نقاش هام حول مسألة العمال من الضفة الغربية ونظام الدخول لإسرائيل والاتجار الظالم في تصاريح العمل تبقى الهستدروت متفرجة اذ انها تنحاز إلى الموقف الأمني الإسرائيلي وترفض التضامن مع العمال الفلسطينيين.

بصفتي المدير العام لنقابة عمالية (نقابة معا) بديلة للهستدروت، وتقوم بدور رائد في الدفاع عن حقوق العمال الفلسطينيين والدفع نحو تنظيمهم في إطار النقابة كاعضاء متساوي الحقوق، أقف بشكل يومي على معاناة العمال الفلسطينيين وأرى كيف يضطرون لشراء التصاريح بآلاف الشواقل كل شهر ويعملون بأجور زهيدة ومن دون حصولهم على الحد الأدنى للأمان الوظيفي.

إن معركتنا من أجل حق العمال الفلسطينيين لا يمكن فصلها عن المعركة العامة من أجل حقوق الإنسان وضمان الكرامة الإنسانية، وهي ذاتها التي كانت محور ثورة الشباب في الربيع العربي. وعلى الرغم من القمع الذي تعرضت له الحركة الديمقراطية الرائعة في مصر وسوريا وسائر بلدان العالم العربي كما في داخل إيران حيث يمارس نظام الملالي أبشع أنواع القمع لسحق الثورة الخضراء – رغم ذلك نحن على قناعة راسخة بأن مبادئ وأهداف الربيع العربي أصحبت قوة لا يمكن شطبها وأنها ستعود إلى الصدارة عاجلا أم آجلا رغم العثرات والخسارات الكبيرة.

التحالف الديمقراطي الجديد

إن التناقض بين من يقف مع الديمقراطية وبين هؤلاء الذين يدعمون الاستبداد يبدو واضحا في فلسطين وفي دول المنطقة وهو يشير إلى النقطة المطروحة في بداية المقال. فما هو مطلوب اليوم هو الخروج من المعادلة القديمة التي قسمت المجتمع بين عمال ورأسماليين، وتبديلها بالخط الفاصل بين كل من يقف مع الديمقراطية وبين قوى الاستبداد.

وتؤكد التطورات الواضحة التي فرزتها الحرب على أوكرانيا بأننا أمام لحظة الحقيقة، حيث وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بأنها معركة مصيرية بين الديمقراطية والاستبداد على نطاق عالمي. فطبيعة الصراع اليوم هو صراع عابر للحدود القومية والجغرافية، وهذا الفرز بين المعسكرين لا يقتصر على الدول بين بعضها البعض بل في البلد الواحد أيضا، ففي أمريكا نفسها يتمثل اليمين الفاشي بقيادة ترامب مع بوتين، وهكذا ماري لوبان في فرنسا. وفي المقابل يقف التيار الديمقراطي الذي يريد عالم متنوعا متسامحا وخال من التفرقة على أساس الدين أو القومية أو العرق أو اختيار الميول الجنسية.

وأمام هذا الامتحان نرى أن إسرائيل بكل تياراتها السياسية تنحاز مع دول الخليج الدكتاتورية إلى جانب بوتين بمحاولة لإفشال بايدن والعمل على عودة ترامب إلى البيت الأبيض. التحالف بين اليمين الإسرائيلي وبين السعودية والإمارات ومصر يدل على هدف مشترك لهذه الدول، حيث تتسامح إسرائيل مع الأنظمة القمعية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان بينما تغض القاهرة والرياض الطرف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

في الأول من أيار، ندعو الكتاب والمثقفين والناشطين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى اعتماد موقف واضح ضد هذا المحور الرجعي القمعي ودعم معركة أوكرانيا ضد الغزو الروسي. من يقف ضد الظلم والاستبداد أينما كان يجب أن يقف اليوم ضد بوتين ومحور الاستبداد.

الأمر المثير الذي من المهم أن ندركه هو أن التطور التكنولوجي وارتفاع مستوى الثقافة والتعليم في دول العالم الثالث والشرائح الفقيرة يبشر بولادة تيار مناهض للظلم والقمع ومنفتح على التعددية الفكرية والجندرية، ويجمع هذا التيار في صفوفه اليوم الشباب في كافة أنحاء العالم. هذا التطور من شأنه تعزيز التفاؤل في إمكانية أن تتغلب قوى الديمقراطية على قوى الظلام.

إن المضمون الحقيقي ليوم العمال، الأول من أيار، يكمن في المطالبة بالديمقراطية والتعددية الفكرية والثقافية وحرية الرأي وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والمثليين. ومن منطلق التزامنا بحق الشعب الفلسطيني نعمل في الميدان لإقامة دولة واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين بين النهر والبحر على أساس اقتصاد أخضر عصري.

للمزيد عن نقابة معا ونشاطها ورؤيتها، اضغط\ي هنا او صفحة الفيسبوك التابعة لمعا، اضغط\ي هنا."

أساف أديب

مدير عام "معا– نقابة عمالية"

شاركونا رأيكن.م