عن محمود درويش والشعر والهوية والذاكرة في أوراق قصيدتي "بطاقة هوية" و"إلى أمي" ...

شكَّل محمود درويش ظاهرة شعرية مميزة امتزجت فيها اللغة وسيرة الشاعر الذاتية بحكاية الشعب الذي اقتحمت المأساة بنيته المجتمعية في عام ١٩٤٨ لتفتت ترابط حياته اليومي بين المنافي ومخيمات اللاجئين وفي حياة قلقة تحت الاحتلال.

من هنا جاء شعر محمود درويش حاملاً إيقاعاً خاصاً للحكاية الفلسطينية، الحكاية التي أصبحت مرادفاً جديداً لغياب العدالة والشعور بالاستقرار والحرية فمحمود درويش الذي ولد في قرية البروة في فلسطين عام ١٩٤١ وعاش منذ طفولته شقاء النكبة في عام ١٩٤٨ انتبه مبكراً لضرورة المجاز في أن يكون فضاء خاصاً للروح الوطنية والتجربة الإبداعية التي امتزج فيها نبض الشاعر بالرؤية، فجاءت قصائده تعبيراً فنياً عن الحياة والهوية منحازاً في ذلك إلى قوة الكلمة ودور الإبداع في نحت مشروع شعري قادر على الانفتاح على التجارب الشعرية عربياً ودولياً وفي أن يكون جزءاً مهماً من الحالة الشعرية العالمية

إن قراءة المنجز الشعري لمحمود درويش يحملنا إلى رواية فلسطينية جعلت من طفل صغير لاجئاً ومن لاجئ إلى منفيٍّ، ومن منفيٍّ إلى عائد لم تكتمل عودته النهائية إلى وطنه، بل ظلت معلقة في الهواء وبين الحواجز والمسافات، تلك التي جعل منها الاحتلال خارطة إضافية للقسوة والمعاناة.

ولعل وجود ضريح الشاعر في رام الله وليس في مسقط رأسه في البروة يختصر تلك الرحلة المعلقة بين المنافي والعودة غير المكتملة، فالشاعر المتوفي في عام ٢٠٠٨ تم دفنه في مدينة رام الله وليس في قرية البروة مسقط رأسه التي تم تدميرها في عام ١٩٤٨ وإقامة ""كيبوتس يسعور"" في ١٩٤٩، ومستوطنة ""أحيهود"" عام ١٩٥٠ على أنقاض القرية المدمرة، وكأن في ذلك المشهد خلاصة مكثفة لفصول المأساة الفلسطينية.

في حيفا كانت توهج البدايات ومع حصار الشاعر بين تفاصيل الحياة اليومية التي فرضتها أدوات الاحتلال كانت موسكو فرصة وتجربة للتحصيل الأكاديمي الجامعة وللخروج من الحصار اليومي كما كانت محطة قصيرة للشعر انتصر فيها الإبداع على الحياة الجامعية لينتقل بعدها محمود درويش إلى القاهرة، وفي القاهرة توثقت تجربة البدايات الشعرية ببعدها العربي واندمج محمود درويش في الحياة الثقافية المصرية والعربية وتألق في مسيرة شعرية مميزة ليحط بعدها في بيروت حيث عاش لسنوات شكلت مصدراً أساسياً لتطور تجربته الشعرية قبل خروج المقاومة الفلسطينية في عام ١٩٨٢ بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان لينتقل بعد ذلك إلى باريس التي منحت تجربة درويش الشعرية توهجاً إضافياً خلال فترة إقامته في الثمانينات ومطلع التسعينات ليعود بعد ذلك من باريس إلى فلسطين مع إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية مقيماً على تخوم الذاكرة في حيفا ومسقط رأسه في قرية البروة المدمرة.

لقد شكلت مسيرة الشاعر مرآة لمسيرة شعب يحاول كل يوم أن يثبت حقه في آثار خطاه الممتدة فوق تضاريس الأرض، تلك الآثار التي امتزجت مع نبض الحياة منذ آلاف الأعوام وشكلت مرجعاً للهوية الحضارية للمكان وللثقافة المعاصرة.

لم تكن فلسطين حالة افتراضية طارئة في التاريخ القديم والتاريخ الحديث، بل مسرحاً مكثفاً للحياة والحرب منذ انتبه الغزاة لموقعها المتميز وانتبه شعبها لمكانتها القابلة لجعل الحياة ممكنة فكانت فلسطين حالة ثقافية إلى جانب كونها جغرافيا وتاريخ وأرض.

غير أن عام ١٩٤٨ سجل علامة مفصلية في التاريخ الفلسطيني تمثل في تقويض المسار الحضاري للمدينة الفلسطينية وتدمير أنماط الحياة اليومية واستبدال الطمأنينة الممكنة بالقلق الوجودي والحياة مع مفردات الاضطهاد الاستعماري الذي جاء متمماً لفترات سابقة من الاضطهاد شملت الانتداب البريطاني على فلسطين.

في هذا السياق اتخذ الشعر الفلسطيني سمة بارزة في الحفاظ على الهوية كما اتخذ دوراً رئيسياً في تشكيل الوعي الوطني الفلسطيني.

قصيدة ""بطاقة هوية"" والمعروفة ""سجل أنا عربي"" من ديوان ""أوراق الزيتون"" الصادر عام ١٩٦٤، وقصيدة ""إلى أمي"" والمعروفة ""أحن إلى خبز أمي"" من ديوان ""عاشق من فلسطين"" الصادر عام ١٩٦٦؛ قصيدتان مؤثرتان في مسيرة محمود درويش الشعرية عبر من خلالهما عن فطرة الانتماء وحاجة الانسان للتعبير عن الذات عبر هوية تحميه من تغول الحرب على حياته اليومية وسلب خصوصيته في الحياة ولغته وجذوره وكينونته بقوة السلاح.

حين عبر محمود درويش عن هويته في قصيدة ""سجل أنا عربي"" كان كمن يكتب بيان الهوية شعراً في وجه من حاولوا مصادرة حقه في أن يكون حراً فوق أرضه دون استعمار واضطهاد فجاءت كلماته منسجمة مع الرغبة الفلسطينية في مواجهة نفي الهوية وطمسها سياسياً وثقافياً، حيث شكلت التحولات السياسية بعد النكبة في عام ١٩٤٨ مفصلاً أساسياً في تحفيز الوعي الفلسطيني خلال النصف الثاني من القرن العشرين من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية أمام كل محاولات الطمس والتشويه والاقتلاع.

صورة من دفتر محمود درويش

لعل تجربة محمود درويش مع الاعتقال والتوقيف وتسجيل وتحديد مكان الإقامة تمثل لمحة مكثفة لطبيعة التعامل مع المجتمع الفلسطيني الذي بقي على أرض فلسطين بعد النكبة فإضافة إلى كارثة الحرب بما تسببت به من ويلات شملت اللجوء والمنافي، شكَّل القمع اليومي والحكم العسكري صورة من صور الحياة اليومية الفلسطينية.

تلك الظروف المعيشية دفعت في المقابل الإبداع بشكل عام والشعر بشكل خاص لاتخاذ دور أساسي في صقل الوعي العام وخلق مناخ وطني في مواجهة سياسات الاحتلال.

صورة من دفتر محمود درويش

وقد يفسر هذا تحول ""بطاقة هوية"" أو ""سجل أنا عربي"" إلى ما يشبه نشيد وطني تردده الأجيال جيلاً بعد جيل حالها في ذلك حال قصيدة ""إلى أمي"" أو ""أحن إلى خبز أمي"" والتي قام بتلحينها وغنائها الفنان اللبناني القدير مارسيل خليفة في منتصف السبعينيات لتصبح من أبرز الأعمال الفنية الملحنة والمغناة لقصائد محمود درويش فلسطينياً وعربياً والتي عبر من خلالها محمود درويش بكثافة شعرية عن تلك العلاقة المقدسة بين الابن والأم والتي هي امتداد لقداسة العلاقة مع الأرض من خلال مفردات الانتماء للمكان والتاريخ والذاكرة ورفض القمع والسجن والاضطهاد.

صورة من دفتر محمود درويش

القصيدتان اللتان تشكلتا من وحي الحياة اليومية للشاعر مع بدايات تشكل مشروعه الشعري والإبداعي امتزجتا بالهواء الفلسطيني لتصبحا من أهم المصادر الشعرية للحكاية الفلسطينية وللمعاناة التي تعرض لها الشاعر في بداياته واستمرت بعد ذاك لتتخذ أنماطاً مختلفة من المنفى واللا-استقرار والتوتر بين كتاب الجغرافيا ودبابات الاحتلال.

لقد أبدع محمود درويش خلال مسيرته الشعرية العديد من القصائد إلى جانب أعمال نثرية لا تقل توهجاً فانشغال الشاعر المستمر على تطوير مشروعه الشعري والتحليق به إلى فضاءات متعددة جعل الشاعر في مقدمة الأصوات الشعرية فلسطينياً ومن الأكثر تأثيراً على المستوى العربي ما خلق حالة مستمرة من التفاعل الجماهيري والقراءات النقدية المتعددة لمختلف أعماله الإبداعية.

قبل عدة سنوات ظهرت بعض من أوراق الشاعر الخاصة منذ بداياته الشعرية، الأوراق التي تم العثور عليها في حيفا والتي احتوت على مسوادت قصائد لمحمود درويش منها ""سجل أنا عربي"" و""أحن إلى خبز أمي"" شكلت كنزاً حقيقياً من الوثائق المعرفية والتاريخية ليس لكونها الوثائق الأصلية المكتوبة بخط الشاعر فحسب، بل لأنها تشكل هذا الارتباط الملموس بين القصيدة كمعنى والقصيدة كحدث والقصيدة كذاكرة والقصيدة كأحد الأدلة على الحياة والوجود.

أن نرى هذه الأوراق في شكلها الأولي أي قبل أن تتم طباعتها لاحقاً في دواوين شعرية أضاف بعداً خاصاً للقيمة المعنوية للكلمات فوجود هذه الأوراق أعادنا بشكل عفوي إلى صورة رمزية لملامح الحياة الفلسطينية في ستيينيات القرن الماضي يمتزج فيها الفردي بالجمعي في مزيج يحفز على المزيد من القراءات التي تفصح عن زوايا متعددة لتلك المرحلة والتي ما زالت تداعياتها تشكل ملامح الحياة اليومية الفلسطينية.

فخلف كل سطر شعري بخط الشاعر وخلف كل مفردة اختارها في صياغة الكنايات يمكن أن نرى خطوات الشاعر في حيفا، يمكن لنا أن نتخيل ملامح وجهه في الزنزانة، كما يمكن لنا أن ندرك تلك الأناقة غير المرئية بين أناقة الشاعر والقصيدة من خلال أناقة خطه في الكتابة ويمكن لنا أيضاً أن نرى الجغرافيا وهي تخرج من ثوب المجاز نحو التفاصيل اليومية في الزمن البعيد فندرك قسوة الوقت الذي كان وما زال يحاصر الهواء الفلسطيني بالسياج والبارود.

قد لا يعني هذا أن الشعر يمثل تأريخاً للحدث، ولكن بكل تأكيد يجعلنا نرى الشعر كأحد مصادر التاريخ عندما نشرع الأبواب لقراءة أكثر اتساعاً للأعمال الشعرية.

قراءة يمتزج فيها البعد الجمالي في اللغة مع سياقات الحياة والتاريخ ضمن مزيج معرفي يعزز من فهمنا للأمس والحاضر والمستقبل.

الأوراق التي ضمت مخطوطات شعرية ورسائل أصدقاء وأوراق شخصية احتفظ بها الأستاذ محمد ميعاري في حيفا لسنوات طويلة وجمعتها الكاتبة والمخرجة امتياز دياب لتصدر في كتاب توثيقي بطابع مميز بعنوان ""ميلاد الكلمات"" حققت انتصاراً معنوياً إضافياً للذاكرة الفلسطينية وللمعنى الشعري للوجود والبقاء في ذات الوقت ...

كما حققت انتصاراً إضافياً لجهة الحفاظ على إرث الشاعر كجزء ضروري من جهود الحفاظ على الارث الثقافي بمشتقاته الابداعية في المجالات المختلفة.

فمع بقاء قصائد الشاعر محلقة في فضاء الهوية الفلسطينية والانسانية ومع بقاء تجربته الشعرية مصدراً من مصادر الإلهام الإبداعي يصبح اكتشاف هذه الأوراق التي تشكل قيمتها التاريخية بمثابة إنجاز معرفي وكنز حقيقي يضاف لسجل الشعر الفلسطيني على وجه الخصوص ولسجل الشعر العالمي على وجه العموم.

فالبحث عن مصادر القصيدة وظروف كتابتها يمنح المعنى حياة إضافية في القصيدة كما يجعل للبحث قيمة معرفية بالغة الأهمية في قراءة الذاكرة، شأنه في ذلك شأن اكتشاف اليوميات والرسائل ومسودات الأعمال الإبداعية للعديد من المبدعين والمبدعات حول العالم.

إن محمود درويش الذي اتخذت كلماته بعداً عالمياً من خلال ترجماته إلى العديد من اللغات أصبح يشكل جسراً ثقافياً مهماً وأساسياً بين فلسطين والعالم، لذلك يمثل الاهتمام بمفردات تجربته الشعرية من خلال الحفاظ على أوراقه ومسوداته الإبداعية أحد المداخل المهمة لفهم طبيعة التجربة ومنها فهم القضية الفلسطينية ومنها أيضاً الانتصار للانسان في معركته الوجودية أجل العدالة.

لقد تمكنت تجربة محمود درويش الإبداعية من الانتقال بمفردات الشاعر إلى فضاءات العالم المتعددة مستندة بذلك إلى رؤيته الشعرية وقدرته على تطوير أدواته الفنية في بناء القصيدة وذلك ضمن مزيج إبداعي حرص فيه محمود درويش على التجدد وابتكار مساحات أكثر رحابة لمشروعه الشعري.

ولعل هذا قد عزز من فرص التفاعل الأدبي مع نصوصه المختلفة عربياً ودولياً والتي شكلت مصدراً من مصادر الإلهام محققة بذلك التوازن بين الفردي والعام من جهة وبين العام والكوني من جهة أخرى.

ولعل هذا يشير أيضاً إلى إيمانه العميق بدور الثقافة والإبداع الشعري في مواجهة مختلف أشكال الاضطهاد والتمييز وغياب العدالة من خلال جهده المميز في تأسيس مجلة ثقافية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي حملت اسم الكرمل، الجبل الفلسطيني الشامخ المطل على البحر والفضاء الممتد من فلسطين إلى جهات الكون، المجلة التي ترأس تحريرها و التي استمرت في الصدور طوال حياته لتكون منارة ثقافية فلسطينية ببعد عربي ودولي في كناية على مكانة ودور الثقافة كما يراها محمود درويش شامخة كجبل، متوهجة كمنارة قبالة البحر تحمل رسالة اليابسة الفلسطينية إلى فضاءات الكون الباحثة عن ضوء الحقيقة إبداع ينتصر دوماً لقيم الجمال والانسانية في مواجهة الحروب والدمار.

إن قراءة فلسطين شعراً يجعل حضور الانسان في الكتابة أكثر توهجاً ويمنح المعنى بعداً أكثر اتساعاً لتصبح مفردات الشعر والكنايات نوافذ يمكن من خلالها قراءة الحياة الفلسطينية ببعد كوني تمتزج فيه الحكاية الفلسطينية مع قضايا الانسان وحقوقه في الحياة والحرية حول العالم.

كاتب المقال: د. إيهاب بسيسو وهو أكاديمي وشاعر فلسطيني. يعمل حالياً نائباً لرئيس جامعة دار الكلمة للاتصال والعلاقات الدولية في بيت لحم. صدر له العديد من المجموعات الشعرية والمقالات والدراسات حول الإعلام والعلاقات الدولية. شغل سابقاً منصب رئيس المكتبة الوطنية ووزير الثقافة الفلسطينية."

د. إيهاب بسيسو

أكاديمي وشاعر فلسطيني. يعمل حالياً نائباً لرئيس جامعة دار الكلمة للاتصال والعلاقات الدولية في بيت لحم. صدر له العديد من المجموعات الشعرية والمقالات والدراسات حول الإعلام والعلاقات الدولية. شغل سابقاً منصب رئيس المكتبة الوطنية ووزير الثقافة الفلسطينية

شاركونا رأيكن.م