تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الحياة الاجتماعية وعلى الصحة النفسية

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا بدأ ينعكس في مجالات عديدة ويدخل في كل تفاصيل الحياة اليومية.

فعبر التاريخ ومنذ ملايين السنين طور البشر آليات تواصل مع بعضهم البعض وأدوات ليتكيفوا من خلالها مع البيئة الاجتماعية. فأوجدوا اللغة والكلام وأبدعوا بتطوير نشاطات مثل اللعب والفعاليات الجماعية والفن والنحت، وظهرت العادات والتقاليد وحددت القوانين والقيم والقواعد والأمزجة والأذواق والمشاعر والرموز، فكونت الثقافة.

عمليات التواصل ونتائجها التي وصلتنا وذوّتناها وصارت جزءا من حياتنا، كانت نتيجة لنمو تراكمي على المدى الطويل. هي لم تكن علوما جاهزة يمكن للمجتمع أن يحصل عليها ويستوعبها في زمن قصير وإنما تتراكم وتنتقل من جيل لجيل.

ما نراه في العقدين الأخيرين هو تطوير مذهل وسريع وعظيم لآليات افتراضية جديدة دخلت كل بيت وأصبحت في متناول يد كل فرد، حيث أخذ التواصل الاجتماعي شكلا جديدا ومختلفا، أثر بدوره على ثقافة المجتمع وصحته النفسية والاجتماعية وعلى اقتصاده ونظرته الشاملة للعالم.

لهذا التأثير وجهان

فمن ناحية أولى أتاح هذا التطور ظهور منصة إعلامية حرة تمكن الأشخاص من التعبير عن آرائهم عبرها بحرية، دون التقيد بأي قوانين تمنع حرية التعبير. هذه المنصة سهلت تواصل الناس مع بعضهم البعض دون التقيد بالحدود الجغرافية وساهمت في تعزيز الإنتاجية العلمية وتبادل الخبرات في مجالات عدة؛ كالصحة، والسياسة، والاقتصاد، وغيرها. هذا، وان كنا لم نشعر به بهذا الحضور سابقا، إلا أنه أتانا قويا وشاملا بعد ظهور الكوفيد 19.

خلال الكوفيد 19 وبخاصة في بداية انتشار الفيروس، ولكن حتى اليوم أيضا، كان لوسائل التواصل الاجتماعي الرقمية الدور الأساسي في الحفاظ على علاقات اجتماعية بين الناس والأقرباء والزملاء في العمل. إضافة إلى ذلك كان للتواصل الرقمي الفضل الأول في استمرار النشاطات الحياتية الحيوية، قدر الإمكان، وعلى مدار الساعة مثل التعليم وغيرها.

لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في زيادة الوعي بالقضايا المجتمعية المختلفة، سواء كانت قضايا بيئية، أو أخلاقية، أو غيرها، مما يزيد من وعي الناس بتلك القضايا، فضلا عن أن التطرق لتلك القضايا والتوعية بها جعل كفة ميزان القوة الإعلامية تميل لصالح الجمهور، وهو ما يصعب على منصات الإعلام التقليدية تحقيقه.

أما من الناحية الاقتصادية فقد ساهمت في تعزيز القوة الاقتصادية والتسويق السهل للمنتجات وكذلك في تقليل نسبة البطالة وخلق فرص عمل وإشغالها عبر النشر عنها.

يمكن القول إن لوسائل التواصل الاجتماعي جوانب إيجابية عديدة من الناحية النفسية. فقد أصبحت ملجأ للأشخاص الانطوائيين أو الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي حيث يستطيعون من خلالها التواصل بسهولة وبناء علاقات (افتراضية) جديدة وأن يكونوا مشاركين في التأثير وصنع القرارات المجتمعية. مع أن بعض الأبحاث أشارت إلى أن الأشخاص الانطوائيين الذين لديهم تصور ذاتي منخفض وثقة متدنية بالنفس، لا يتفاعلون بشكل عام بالشبكة الاجتماعية وإنما يتخذون موقع المشاهد في أغلب الأحيان، إلا أنه حتى هذه المشاركة السلبية Passive)) تعطي الشعور للشخص بأنه ليس وحيدا.

وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت الفرصة أيضا لطلب واستقبال الدعم النفسي. فتكونت مجموعات الدعم المغلقة المختلفة، خاصة تلك التي تتعلق بمواضيع مثل القلق والاكتئاب حيث أصبح بالإمكان اللجوء للاستشارة والدعم النفسي والفضفضة.

ولكن يجب توخي الحذر ألا تنقلب الشاشات الداعمة لتكون الطريقة الوحيدة للتواصل الاجتماعي، حيث إنه لا غنى طبعا عن التواصل الوجاهي والعمل على مواجهة المخاوف منه بطرق مهنية مسؤولة.

لأن للتواصل الوجاهي الحقيقي المباشر أهمية كبرى في إيصال المشاعر وتسهيل التواصل العاطفي بين أفراد المجتمع، حيث لا يقتصر الأمر فقط بإرسال الرموز التعبيرية للتعبير عن الحزن أو السعادة، والتي كثيرا ما يتم تفسيرها بشكل خاطئ فيُؤثّر هذا الأمر على العلاقات بين الأفراد.

أما الوجه الآخر لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا النفسية والاجتماعية، فقد يظهر أولا بسهولة في انتهاك الخصوصية وبث الشائعات الكاذبة وسهولة التنمّر الإلكتروني، خاصة على الأطفال، ولكن أيضا على الكبار، الأمر الذي قد يؤدي الى القلق والاكتئاب وأحيانا الانتحار.

إن ارتفاع حالات التنمر الالكتروني يودي بأطفال كثيرين إلى فقدان الشعور بالأمان، حيث تختفي الابتسامة البريئة من على وجوههم. قسم منهم يدخل في حالة من القلق والاكتئاب فنراهم في العيادات النفسية وفي المستشفيات. قسم آخر لا يمكن للأهل رصدهم ومساعدتهم فنراهم قد يلجأون إلى وضع حد لحياتهم كما حدث قبل سنتين لطفل في العاشرة، الذي أقدم على الانتحار بعد أن كان ضحية لتنمر أبناء جيله عبر الشبكة. حسب الإحصائيات (سنة 2017) كانت هناك 2100 حالة انتحار بين الأطفال في الولايات المتحدة بسبب التنمر الإلكتروني.

إن إتاحة الإمكانية لكل شخص بالنشر بحرية، أحيانا باسمه الشخصي وأحيانا تحت أسماء مستعارة، قد يكون دافعا لانتشار العنف إن كان بشكل مباشر أو عن طريق شرعنة لغة عنيفة عبر الشاشة، سرعان ما تتحول إلى سلوك واقعي في التعامل بين الناس.

إضافة لما ذكر، فإن الاستعمال المفرط قد يتحول لإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي وقد يؤثر على العلاقات الأسرية والتواصل الوجاهي الحقيقي بين أفراد العائلة حين يلتقون في البيت.

مع الإيجابيات التي أوردتها في بداية مقالتي حول الدعم الذي قد يحصل عليه الأشخاص الذين يعانون رهابا اجتماعيا، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تؤدي فعلا إلى زيادة الرهاب الاجتماعي عند الناس العاديين. فالاستخدام المفرط لهذه الوسائل عند الأطفال قد يعرقل تطوير آليات تواصل حقيقية وقد يؤدي إلى زيادة الشعور بالوحدة والعزلة.

في النهاية، نحن لا نستطيع المرور مر الكرام على صور مثيرة ومشاهد رحلات ونشاطات جذابة وأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي ولا نبحث عن أنفسنا داخلها ولا نقارن حياتنا وإمكانياتنا بها. قد نقوم بذلك بشكل واعٍ، ولكن قد يكون التأثير علينا بدون أن نعي ذلك. هذا الأمر بطبيعة الحال قد يؤدي إلى زعزعة الثقة بالنفس، الأمر الذي قد ينعكس ذلك على حياتنا الاجتماعية وأدائنا النفسي في مجالات عدة.

التربية للاستعمال الصحي والصحيح وبمقدار محدد لوسائل التواصل الاجتماعي هما الوسيلة لاستغلال إيجابياتها المختلفة لنتطور نحن من خلالها ونطور عالمنا المستقبلي.

د. علي بدارنة

اختصاصي نفسي ومعالج بالهيبنوزا (التنويم المغناطيسي) ومدير عام "الرازي للتشخيص والعلاج والتأهيل"

شاركونا رأيكن.م