مع بداية العام أطلقنا في منظمة الصيد البحري حملة إعلامية على شبكات التواصل الاجتماعي، لتحرير البحر وإنقاذه من الغزاة. استغرب كثيرون من شعار ودلالات الحملة والرسالة التي تحملها، لا سيما في ظل حملات الشيطنة والتضليل التي تقودها المنظمات الخضراء الإسرائيلية ضد أهل البحر منذ سنوات. محزن أن تنطلي أكاذيب هذه المنظمات، على كثيرين من أبناء شعبنا الفلسطيني، ليصل بهم الوضع حد الانسياق مع الحملات والترويج لها، دونما معرفة هدفها الدفين.

حرصت إسرائيل منذ النكبة على تدمير كل ما هو فلسطيني على الشاطئ من رأس الناقورة، شمالا، وحتى عسقلان جنوبا. بدءا من اقتلاع القرى والمدن الساحلية وتدمير المعالم والبنى التحتية، كالموانئ التجارية ومراسي الصيادين، وانتهاءً بملاحقة الصيادين وقطع أي علاقة للفلسطينيين مع البحر والشاطئ. نجحت خطة إسرائيل في قطع صلتنا بالبحر، لتُختزل لحد الاستجمام واللهو على شواطئ السباحة والمتنزهات فقط. أصبح البحر بنظر الفلسطيني موقعا سياحيا ترفيهيا، يتضرع أهلنا في الضفة الغربية لزيارته خلال الأعياد والمناسبات، بعد أن ازدهرت علاقتنا به في الماضي وامتدت لمجالات كثيرة في حياتنا.

لقد تجسدت علاقة الفلسطيني في البحر، حتى النكبة 1948، بأشكال متنوعة وعديدة، إذ شكّل مصدر رزق لآلاف العائلات من الصيادين المحترفين، وكان مجالا للسفن الفلسطينية للتنقل والسفر ولتشغيل موانئ تجارية لتصدير واستيراد البضائع من وإلى البلاد، ومرتعا للنشاطات الرياضية المائية، ومكانا للقاءات الاجتماعية ومُلهما للشعراء والأدباء والفنانين وملجأ للعاشقين. تجاوزت علاقة الفلسطيني بالبحر مهنة الصيد والملاحة ليتحول المورد الهام لجزء من حياة وتراث وهوية الفلسطيني. كيف لا وهو من احتل مكانة في الأدب والشعر والمسرح والفن والتاريخ.

مع مرور السنين استولت إسرائيل شيئا فشيئا على الحيز البحري، إذ وضعت وتبنت قوانين انتدابية، تنظم حركة السفن التجارية والموانئ، وأخرى تنظم فرع صيد الأسماك وبالأحرى تضيق على من حافظوا على علاقتهم التاريخية مع البحر، وهم الصيادون المحترفون. بالمقابل تجاهلت إسرائيل جميع النشاطات الحاصلة في عرض البحر من قبل جهات تحمل مشاريع أيديولوجية واقتصادية، حتى أنها كانت تدعم هذه النشاطات المدمرة للبيئة البحرية وللمورد الطبيعي الهام، ناهيك عن البحرية الإسرائيلية التي تجري التدريبات في عمق البحر وتقضي على كل درة جميلة في بحرنا بذريعة الحفاظ على أمن إسرائيل.

منذ استولت المؤسسة على البحر، انتشرت الصناعات الكيماوية، ومحطات توليد الطاقة، ومواقع تحلية مياه البحر، والموانئ التجارية العملاقة، ومنشآت الغاز الطبيعي، دون رقابة ودون قيود وقوانين تحمي الأحياء البحرية والبيئة في قلب الكيان المائي. سيطر أباطرة الاقتصاد بتواطؤ حكومي على مورد عمومي بملكية المواطنين. عاثت هذه الأطراف الغازية الفساد بالبحر، ولاحقت وما زالت تلاحق آخر بصمة فلسطينية صامدة في قلب المتوسط؛ الصيادين، أهل البحر.

إذن، صمدت مجموعة مستضعفة أمام مخططات الاقتلاع وحافظت على وجودها في البحر، مصدر رزقها ومعيشتها. على ما يبدو أن إسرائيل ظنت بأن الصيادين المستضعفين أصلا لن يصمدوا أمام تحديات جسام ومخططات الاستيلاء على الحيز البحري، كما صمدوا وما زالوا صامدين أمام الأمواج العاتية؛ لذا قرر غزاة البحر شن حملة لاقتلاع الصيادين وإقصاء الشاهد الوحيد على الجرائم بعيدا؛ كي لا يفضحوا الممارسات البشعة التي يرتكبونها بحق كنزنا الطبيعي. لكن كيف يمكن لأيدي الدمار شن حملة ضد مجموعة مستضعفة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ علما أن ضررها على البيئة البحرية لا يتعدى نسبة 1% بينما تُلحق الصناعات المدمرة أضرارا جسيمة يحتاج البحر عقودا من الزمن كي يتعافى منها- الضرر الذي تسببه الصناعات المدمرة في يوم واحد يعادل ألف يوم صيد.

اختار الغزاة المنظمات الخضراء لهذه المهمة، خصوصا وأنهم يحظون برعاية من الدولة وثقة كبيرة عمياء من الجمهور. أطلقت المنظمات الخضراء حملات تحمل للوهلة الأولى رسائل لحماية البيئة والأحياء في البحر، ودعت الجمهور من خلال حملات التضليل إلى إنقاذ البحر من براثن العدو الخطير- الصيد البحري والصيادين الفقراء والضعفاء، واتهمتهم بخراب البحر وقتل الأحياء. لم تكتف المنظمات في الحملة فقط، بل باشرت بإعداد مخططات أيديولوجية تحمي أباطرة الاقتصاد ومشاريع الحكومة التهويدية من جهة، وتخدم مصالحها وتعزز من سيطرتها في الحيز البحري من جهة أخرى، وتمثلت في توسيع وزيادة المحميات الطبيعية البحرية وفرض قيود صارمة على فرع الصيد عام 2016، أطلقت عليها ""خطة إصلاح فرع الصيد البحري"" متذرعة بأن هدفها حماية البيئة البحرية وإنعاش الثروة السمكية. طبعا بالمقابل تساهلت مع الصناعات المدمرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وافقت على إقامة منشأة ""لفيتان- الحوت"" على بعد 9 كيلومترات عن الشاطئ، فضلا عن كارثة القطران التي عصفت بشواطئنا وبحرنا بداية العام، وأسقطت القناع عن وجهها وكشفت أن مقترف الجريمة هي ذات الصناعات التي تحميها المنظمات الخضراء وتلمع أفعالها من خلال عملية تسمى ""غرين ووش"".

إن القيود الصارمة ومشاريع حماية البيئة البحرية والكائنات الحية، التي تسوقها المنظمات الخضراء ضمن حملات تضليل تمولها الصناعات المدمرة وسياسات الحكومة الرأسمالية، ما هي إلا وسيلة جديدة لتشديد السيطرة على الحيز البحري ولقطع علاقة آخر مجموعة سكانية عربية مع البحر، ومحو البصمة الأخيرة والوجود الفلسطيني في قلب المتوسط، والقضاء بالتالي على موروث الصيد البحري واقتلاع حماة البحر ومن ينتمون إليه أكثر من أي طرف وغازٍ ومحتل، لاسيما وأن السواد الأعظم من المجموعة الصامدة والمقاومة؛ الصيادين المحترفين، هم عرب يناضلون من أجل العيش الكريم، ويمارسون مهنة عريقة وعتيقة في أقدم الموانئ والمراسي، في يافا وحيفا وعكا وجسر الزرقاء والطنطورة. مهنة ليست فقط شكلًا من أشكال العلاقة مع البحر، بل هي جزء أصيل من تراث وحياة وتاريخ وهوية، تماما كما هم أهل البحر جزء أصيل من هوية البحر وبيئته، وتماما كما هو البحر مكون أساس في ثقافتنا وروايتنا الفلسطينية وجزء من وطننا.

هذا البحر لي، بل لنا جميعا، فهو من يمدنا بالغذاء والتفاؤل والأمل والحرية في كل مرة نلجأ إليه مهما كانت حالتنا وظروفنا ومكانتنا. لم يخيبنا رغم ما يتكبده من كوارث وجرائم بيئية وحشية. واجبنا حمايته من الملوثات والذود عنه من كل مكروه، وأضعف الإيمان هو تقوية علاقتنا به وتعزيز انتمائنا إليه والحفاظ على بيئته. مسؤوليتنا تحريره من الغزاة.

سامي العلي

مختص استراتيجي، ومدير منظمة الصيادين وباحث في المجال والموروث البحري

شاركونا رأيكن.م