العنف وأبعاده في مراحل تطور الطّفل والبالغ

سوف أعرض في هذا المقال المقتضب، تطور ظاهرة العنف في الطفولة المبكرة وأبعادها في حياة البالغ ومجتمعه، كذلك تداعيات الأمر في مجتمعنا العربي واقتراح بعض الحلول المتواضعهّ .

هنالك وجوه عديدة للعنف، ممكن أن تظهر كعنف جسدي اتجاه الآخرين، عنف اتجاه أغراض مختلفة، عنف كلامي وعنف نفسي. هناك حالات عنف تظهر عند الأطفال والبالغين اتجاه أنفسهم، إذ إنّ نتائجها النّفسية على الفرد أصعب بكثير من العنف الموجه نحو الخارج.

نظريات عديدة بعلم النّفس تفسر بأشكال مختلفة أسباب التّصرفات العنيفة. فرويد، أب نظرية التّحليل النّفسي اعتقد أن الدّافع العدائي يولد مع جميع البشر؛ إلّا أن خلال تطور الطّفل يتعلم الفرد جمح هذه العدوانية حتى يستطيع أن يعيش ويندمج مع العائلة والمجتمع. فيكبت الطّفل هذه المشاعر العدائية أو يعبر عنها بطرق بديلة وصحيّة، مثل اللّعب الخيالي أو ممارسة الحركة، والرّياضة. لهذا علينا كأهل أن نتيح للطفل مساحه آمنه للعب وتفريغ طاقاته، أن لا نخشى من دخول الطّفل إلى عالم الخيال وتجسيد أدوارَ مختلفة حتى الشرسة منها، لأنه من خلالها يتعلم ويفحص أمورًا حياتيه. لكن من المهم أن نساعده بالتّمييز بين الواقع والخيال واسقاطاته.

""وينوكوت"" أضاف جوانب عديدة للوالدية في نظريّة التّحليل النّفسي، فأشار إلى موضوع العض لدى الرّضع كبوادر عدائية أولى تظهر لدى الطّفل لتفحص أولي لمحيطه. في هذه المرحلة لا يملك الطّفل الإدراك الكامل لهذا التّصرف، لكن فيما بعد يصبح أكثر فعاليّة، أكثر استقلالية وذو مبادرة. ردود فعل المحيط لعملية العض تؤثر على سلوكيات الطّفل فيما بعد، حيث من الممكن أن تشجع عند البعض ظاهرة العض وتؤدي إلى تطور طفل متمرد الذي يتمتع من تعبيره العنيف ومن ردود فعل محيطه. من المهم الإشارة أن في هذه المرحلة الطّفل لا يزال غير واثق بانفصاله وتفرده من محيطه؛ لهذا عليه تطوير وتأسيس الاحساس بالانفصال. فعندما يوبخ الأهل ويمنعونه من العض، يستوعب الطّفل أنه إنسان منفصل عن محيطه، وإن دوافعه تختلف عن دوافع أهله، كذلك يبدأ بالانكشاف لكل موضوع القوانين بمعنى الممنوع والمسموح. لهذا علينا كأهل متابعة عملية التّربية، والتّثقيف، ومساعدة الأطفال على تذويت القوانين مع الكثير من الصّبر، واستيعاب لاحتياجاته دون استعمال العقاب الصّارم والحاد.

في بعض الأحيان هناك علاقة وراثيّة لظاهرة العنف لدى الأطفال، إذ إن بعضهم يولدون مع طبع حاد (مستوى الاحباط منخفض، عصبيون ولديهم صعوبة بالتّكيف للتغييرات)، التي تطور فيما بعد سلوكيات عنيفة عند البلوغ. بحسب تخمين بعض الباحثين إن صعوبة الأولاد في السّيطرة على تصرفاتهم تؤدي إلى انجرار بعض الأهل لاستعمال طرق تهذيب حادة (مثل عقوبات صارمة، وحرمان قاسٍ) التي تسبب ردود فعل عكسية، وازدياد الظّواهر العنيفة. كذلك هنالك أطفال يولدون مع صعوبات صحيّة التي تساهم أيضًا في ظهور سلوكيات عنيفة، التي أغلب الظّن تشير إلى صعوبة تأقلمهم، فمن خلالها يحاول الطّفل أو البالغ التّواصل مع المحيط. لهذا من المهم هنا أن نفهم الدّوافع من وراء التّصرف العنيف. أنا أؤمن أنه لا يوجد طفل صعب بل أن هنالك أمورًا يستصعب التّعامل معها، لذا علينا كأهل ومربين أن نتعلم طريقة التّواصل معه ونرشده إلى الطّريق الأفضل.

يلعب التّلفزيون والوسائل الإلكترونيّة دورًا مهمًا أيضًا بتأثيرهم على اكتساب الأطفال والفتيّة سلوكيات عنيفة، فقد أثبتت الأبحاث أن البرامج والأفلام التي تتضمن مضمونًا عنيفًا لها تأثير فعال على المشاهدين من الأطفال والفتيّة. ممكن أنّ يتعلم المشاهد أساليب عنف مختلفة، وأن يتأثر من الشّخصيات المفضلة لديه ويقلدها. بالذات عندما يتم اخراج مشاهد عنف بشكل خيالي وتمثيل قدرة تحمل عالية لا صلة لها بالواقع الحقيقي. المشكلة لا تكمن فقط بالتّقليد إلا أنهم يلجؤون لاستعمال العنف لحل مشاكلهم، بالإضافة إلى إمكانيّة تجردهم من الإحساس مع الآخر ومع معاناته. لهذا علينا كأهل، مراقبة البرامج التي يشاهدها أولادنا والحد منها كليًا.

يتأثر الأولاد بالمحيط الذي يعيشون به، فإذا ساد العنف الجسدي أو الكلامي بين الزّوجين؛ يزداد مستوى الخوف لديهم وعدم الشّعور بالأمان، بالتالي يزداد احتمال تعلمهم حل النّزاعات بأساليب عنيفة. العائلة هي الجسم الأساسي التي تكسب الأولاد التّربية والمبادئ الاجتماعيّة، وهنا يقع السؤال المهم: كيف تتحول العائلة من مكان آمن إلى مكان مسيء ومهدد؟

السبب المركزي يكمن في الأحوال والظّروف الاجتماعيّة (وضع اقتصادي صعب، فقر، عدم توفر أماكن عمل وعدم تحقيق الذّات). هذه الظّروف تؤدي إلى ظهور سلوكيات عنيفة اتجاه الدّائرة القريبة والمتاحة للمعتدي. كذلك السّكن، العيش بمحيط مكتظ وشعور هذه الفئه بالقهر والتّمييز، حيث تجبرهم الظّروف إلى استعمال العنف كأداة تفريغ غير إراديّة. تحقيق الذّات هي الدّرجة العليا في نظرية سلم ماسلو (اختصاصي نفسي من التّيار الإنساني)، إذ يسعى الإنسان لتحقيقها. لكي ينجح بذلك عليه أن ينجح بتحقيق مراحل عدة سابقة: الاحتياجات الجسديّة مثل الغذاء، الشّعور بالأمان، الهوية والانتماء، الاحترام والتّقدير ومن ثم تحقيق الذّات. حقيقة، عندما يشعر الإنسان أنه لا يرى الضّوء في آخر النّفق أو يشعر أن طريقه نحو هدفه مغلق فسيشعر بالإحباط والخذلان مما يجعله يلتجئ نحو العنف.

المجتمع العربي في الدّاخل يمر في ظروف صعبة في شتى المجالات، مما تساهم بنظري لازدياد ظاهرة العنف. فإذا نظرنا إلى نظريّة سلم ""ماسلو"" المذكورة سابقًا فسنفهم جذور هذه المشكلة. المتطلبات الحياتيّة لجميع الازواج تحتاج اليوم إلى السّعي الشّاق نحو لقمة العيش والانشغال بالقضايا الاستهلاكيّة، وفي طريقهم يواجهون الكثير من الاحباط، والشّعور المستمر بالتّمييز من قبل الدولة مما يثقل من كاهلهم. الانغماس بالأمور الاقتصادية تجعل الأهل يتغيبون عن دورهم الأساسي في التّربية، وممارسة الوالدية الناجعة. هذه الضّغوطات الكثيرة تدفع الأهل لاتباع نهج صارم مع أولادهم، أو اتباع نهجًا لينًا بلا حدود ورقابة، حيث يترك أثرًا سلبيًا في حياتهم ويزيد من احتمال اتباعهم تصرفات عنيفة.

هنالك دور هام للدولة بالمساهمة في تخفيف ظاهرة العنف. مثل تخصيص ميزانيات كافيه للمجالس والبلديات لبناء مشاريع وبرامج مختلفة للفتيه والشّباب، وتوسيع مسطحات البناء لتخفيف الاكتظاظ القائم، عدم تعجيز طلابنا من الدّخول إلى الجامعات والاندماج في المجتمع. كذلك إتاحة فرص عمل عادلة للجميع. أود أن أشير أيضًا إلى المسؤوليّة الجماعيّة التي تقع علينا كمجتمع عربي، فقد أشار ""ماسلو"" بإحدى درجات السّلم الى أهمية الهوية والانتماء، فعلينا كأهل تربية أولادنا وترسيخ الوعي حول هويتنا الجماعية، انتماؤنا الوطني وتذويت مشاعر الحب والاكتراث بقضايانا حتى نسعى نحو مجتمع أفضل. زد على ذلك تغيب قوى وطنية على الساحة، التي تجسد تغيب دور الأب والأم في المجتمع العربي في الدّاخل، فلها دور مهم ببناء الوحدة والوعي الجماعي أيضًا.

علينا كمجتمع عربي أن ننظر عميقًا إلى أنفسنا ونعترف بواجبنا نحو الجيل الصاعد، تحمل المسؤولية الكاملة اتجاه ما يحدث في الشّارع ومن ثم توحيد صفوفنا وتعزيز إدراكنا الجماعي حتى نستطيع توجيه اصبع الاتهام نحو الخارج، والمطالبة بحقوقنا كافة.

عالية صفدي - زعبي

معالجه عاطفية بالدراما والفنون الإبداعية باختصاص سيكوترابيا جسد ونفس

شاركونا رأيكن.م