القدس مهوى القلوب ومحّددة اتجاه البوصلة

كل شيء يبدأ وينتهي بالقدس، هذا ما أثبتته القدس بالأسابيع الأخيرة؛ ففي اللّحظة الّتي ظنت فيها إسرائيل أنها تسيطر على كل شيء بالمدينة أثبت أهلها وشبابها خطأ الفرضية بالكامل، فخلال بضعة أيام أعادت القدس وشبابها القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة العالميّة من جديد وبشكلٍ مثير للاهتمام بشكلٍ كبير.

ما حدث ليس بالغريب، فالقدس مهوى قلوب الجميع وهي القادرة على جمع الكلّ الفلسطيني على اختلافات انتمائهم الفصائلي، والحزبي، والدّيني. الكلّ لبى نداء القدس الأخير وقد كنت شاهدًا على واحدة من أكبر المظاهرات الدّاعمة للشعب الفسطيني في السّنوات الأخيرة بالعاصمة الأمريكيّة واشنطن، فعندما تنادي القدس الكلّ يلبي أينما كان.

تلبية نداء القدس نابعة بالأساس من البعد الدّيني والوطني والتّاريخي للمدينة، فالكلّ يعرف أنّ القدس هي مهبط الأديان ولا يستطيع أحدٌ كان صغيرًا أو كبيرًا، قريبًا أو بعيدًا أن يتجاهل هذا النداء. هذه الجاذبيّة غير عادية والقدرة السّحرية لها هي أيضًا أحد أبرز أسباب ما تعانيه وما عانته عبر العصور، فالكلّ أراد ويريد أن يسيطر عليها فهي درة التّاج.

وضعيّة القدس التّاريخية والدّينية كانت محفزًا للملايين من الزّائرين؛ فالكلّ يريد أن يزور القدس والكلّ يريد أن يرى المسجد الأقصى وقبة الصّخرة، الكلّ يريد أن يزور كنيسة القيامة ويسير بشوارع البلدة القديمة. وحسب الاحصائيات الإسرائيلية زار القدس عام 2019 قرابة 3.64 مليونَ زائرٍ 54% هم مسيحيون، 26% يهود و1.4% من المسلمين. من المتوقع أن تتغير هذه النّسب مستقبلًا في ظلّ تغيرات سياسية واتفاقات مصالحة بين إسرائيل من جهة والفلسطينيين والدّول العربيّة من جهة أخرى.

أدركت إسرائيل منذ البدايات أهمية السّياحة الدّينية، وأنا هنا لا أتحدث عن الأهمية الاقتصادية– على الرّغم من أهميتها- لكنني أتحدث عن نقل الصّورة إلى العالم، بالنّسبة لإسرائيل فإن كلّ السّياح الأجانب هم بمثابة مراسلون لدولهم تحاول أن تظهر لهم أفضل وجوهها من كلّ النّواحي، في المقابل هي تحاول أن تظهر الفلسطينيين دائمًا بأسوأ صورة فالإسرائيليون كرماء محبون ولطيفون, في الوقت الذي تحاول فيه اظهار الفلسطينيين بمظهر المجرمين الذين لا يتورعون عن سرقة أي سائح والنّصب عليه، علاوة على فكرة أنّ الفلسطينيين رعاع لا يعرفون كيف يتصرفون بحب و/ أو احترام.

هذه الفكرة الّتي تعمل عليها إسرائيل تهدف بالأساس إلى استغلال الوضع لتحويل كلّ سائح أجنبي يزور القدس إلى سفير في بلاده يتحدث عن الإسرائيليين وحضارتهم، وعن الفلسطينيين واستغلالهم للسّياح! بالطبع الفكرة هي تحسين صورة إسرائيل قدر الإمكان– بالإضافة بالطّبع إلى الفوائد الاقتصادية الجمة من السّياحة الدّينية- لا يغيب علينا هنا أن ننوه طبعًا أن العالم المسيحي بشكلٍ عام يفضل أن يسيطر هو على القدس، لكن إذا كانت هناك مفاضلة بين سيطرة يهودية أو سيطرة إسلامية فعلى الأغلب سيميل إلى دعم السيطرة اليهودية على المدينة المقدسة.

لا ننسى هنا طبعًا موضوع الإنجيليين الأمريكيين والسّياحة الدّينية للقدس، فزيارة القدس بالنّسبة لهم هي أمر مهم جدًا قبل تحقق النبوءات التي يؤمنون بها، فهؤلاء يأتون بمئات الآلاف كلّ عام لا رغبة بالاستجمام ولا رغبة بالشّواطئ، لكن بدوافع دينية بحتة قائمة على دعم إسرائيل وزيارة للقدس تمهيدًا للحرب الكبرى كمان يؤمن كثيرون منهم. بالمقابل إسرائيل تعرف النوايا الحقيقة للإنجيليين لكنها– تسايرهم كما يقولون- لتستفيد منهم أكبر استفادة ممكنة.

في الوقت نفسه تقوم السّلطات الإسرائيلية بعمل جاد لاستغلال السّياحة الدّينية بالمدينة المقدسة لتسريع عمليات تهويد القدس، تارة باقناع السّياح الأجانب بيهودية أماكن أثرية ودينيّة بالمدينة، وتارة بالسّيطرة على أماكن استراتيجيّة جديدة بحجة تطوير المرافق السّياحية، ويتمثل المشروع بإقامة قطار هوائي معلق ملاصق للمسجد الأقصى المبارك حيث يربط جبل الزّيتون المطّل على البلدة القديمة وباب المغاربة أحد أبواب المسجد، ويهدف في ظاهره إلى تسهيل وصول المستوطنين من غرب القدس إلى البلدة القديمة.

ولكن الفلسطينيين يرون أنّ هذا المشروع يحمل أكثر من هذا الهدف؛ فهو على أقلّ تقدير سيغيّر المعالم الشّهيرة للبلدة القديمة وسيضفي طابعًا آخرًا على وجه القدس الشّرقية ومحيط المسجد الأقصى، ناهيك عن زيادة أعداد المستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى يوميًا ويستبيحون البلدة القديمة وحي سلوان.

من الناحية السياسيّة جاء تقديم مشروع القطار الهوائي مرافقًا لصعود اليمين السّياسيّ وزيادة الإمكانات التّمويلية والعمليّة الّتي توظفها جماعات اليمين الاستيطانية في تغيير هوية القدس، وهو ما دفع بلدية الاحتلال في ذلك الوقت لتقديم هذا المخطّط ليكون مشتركة تستفيد منها الحكومة من جهود تلك الجمعيات، وتتكامل فيها مشاريع الطرفين مع جماعات اليمين على بناء وتجهيز مراكز الجذب السّياحي.

باختصار؛ إسرائيل تستعمل كلّ الحجّج للتسريع بتهويد القدس والسّيطرة على كلّ أحيائها، والسّياحية عمومًا والسّياحة الدّينية خصوصًا هي أحد أبواب السّلطات للسيطرة على المدينة المقدسة من جهة، وفرض الرّواية اليهوديّة للتاريخ من جهة أخرى. لا ننسى هنا أن معظم السّياح المتدينين يأتون من خلال كنائسهم أي أنَّ الكنيسة نفسها تنظم الرّحلة وتتعاون بالتّنظيم مع كبرى شركات السّياحة الإسرائيلية التي هي بطبيعة الحال إسرائيليّة، وهذا يعني أن المكاسب بالمجمل ستكون إسرائيليّة وأنًّ الرّواية التي ستسمع ستكون إسرائيلية (أو محايدة بأحسن الأحوال) وأن الرّواية الفلسطينية لن تسمع وسيعود السّياح حاملين الرّواية الإسرائيليّة.

تصوير: طارق بكري

المحامي معين عودة

محام مختص بالقانون الدولي وحقوق الانسان

شاركونا رأيكن.م